انتكاسة الثورات ونكبة القدس الجديدة

لم يشك أحد من العرب أو المسلمين أن الربيع الثوري الذي بدأ في تونس أواخر 2010 كان بارقة أمل كبيرة للقضية الفلسطينية، وقد كنا نهتف في ميدان التحرير “ع القدس رايحين.. شهداء بالملايين” وكانت أكبر التُّهم التي يتم التنديد بالحكام العرب بها هي العمالة للكيان الصهيوني، أو على أقل تقدير خذلان إخواننا الفلسطينيين وعدم مناصرتهم بشكل حقيقي، وبعد تَنَحِّي مبارك بعدة أشهر لم يتورع الشباب الثائر في مصر عن محاصرة السفارة الصهيونية -بل- وصل إلى تقديم ثلاثة من الشهداء فضلا عن مئات من الجرحى في سبيل اقتحامها، وأدى ذلك لإغلاقها عدة سنوات، إضافة للحافلات الشبابية التي توجهت من مصر إلى غزة وقت الحرب عليها عام 2012.

وفي خطوة ثورية جريئة توجه رئيس الوزراء المصري د. هشام قنديل لزيارة غزة وقت الحرب عليها، مما اضطر الكيان الصهيوني لوقف القصف وقت تواجده داخل الأراضي الفلسطينية، ثم عاد يقصف بعدها بعنف، حتى إنهم دمروا المبنى الذي التقى فيه د. هشام قنديل بالقيادة الفلسطينية، وهذا المشهد بالضبط يمثل لنا صورة مصغرة لحال الثورات العربية وأثرها على القضية الفلسطينية، فبمجرد إقبال الثورات انزوى الصهاينة وشعروا بالضعف وقرب الهزيمة مع تساقط حلفائهم ووكلائهم، وعند حصول الانتكاسة الثورية عادوا ينتقمون وينكلون حتى وصلت وقاحتهم للترتيب مع أمريكا وإعلان كون القدس المحتلة عاصمة لدولتهم المزعومة، واتخاذ خطوات عملية لنقل السفارة الأمريكية لدى الكيان الصهيوني داخل القدس.

والمشهد الحالي رغم الإدانات الجوفاء التي بدرت من بعض الدول العربية ومن ضمنها مصر والسعودية، هو مشهد سيطرة صهيونية مدعومة أمريكيا، حيث تنفيذ القرار الأمريكي اليوم بعد أكثر من اثنين وعشرين عاما على صدوره، هو بمثابة إعلان أمريكي صهيوني عن وأد ثورات الربيع العربي ودفنها، وهم يعلمون أن تركيا وحدها قد تعجز عن حشد عربي وإسلامي قادر على منع تنفيذ هذا القرار، خاصة في ظل الدعم السعودي الكامل للكيان الصهيوني، إضافة لانشغالها بمحاصرة قطر وملاحقة حماس والإخوان واعتبار هيئات علمائية إسلامية (منظمات إرهابية)!!

لستَ تجد لحالنا توصيفا أدقَّ من قول النبي عليه الصلاة والسلام لثوبان رضي الله عنه: يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا. قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ، تُنْتَزَعُ الْمَهَابَةُ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ، وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ. قَالَ: قُلْنَا: وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ. وحتى يكون الوصف أكثر دقة، ورد في الرواية الأخرى: “حُبُّكُم الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَتِكُم القِتَال” رواه أحمد وأبو داود.

ومما جاء في شرح الحديث: يَقْرَبُ فِرَقُ الْكُفْرِ وَأُمَمُ الضَّلَالَة أن تَتَدَاعَى بِأَنْ يَدْعُو بَعْضهمْ بَعْضًا لِمُقَاتَلَتِكُمْ وَكَسْر شَوْكَتكُمْ، وَسَلْب مَا مَلَكْتُمُوهُ مِنْ الدِّيَار وَالْأَمْوَال. والقصعة: وعاء يؤكل ويُثْرَدُ فيه، وكان يُتَّخذ من الخَشَب غالبًا. والضَّمِير في (قَصْعَتهَا) لِلْأَكَلَةِ. أَيْ: الَّتِي يَتَنَاوَلُونَ مِنْهَا بِلَا مَانِع وَلَا مُنَازِع، فَيَأْكُلُونَهَا عَفْوًا وَصَفْوًا، كَذَلِكَ يَأْخُذُونَ مَا فِي أَيْدِيكُمْ بِلَا تَعَب يَنَالهُمْ، أَوْ ضَرَر يَلْحَقهُمْ، أَوْ بَأْس يَمْنَعهُمْ. (غُثَّاء السَّيْل) مَا يَحْمِلهُ السَّيْل مِنْ زَبَد وَوَسَخ. شَبَّهَهُمْ بِهِ -صلى الله عليه وسلم- لِقِلَّةِ شَجَاعَتهمْ وَدَنَاءَة قَدْرهمْ. اهـ من كتاب عون المعبود شرح سنن أبي داود.

لا أعرف ماذا يقول المُنَظّرون للسلمية مع هذا الحديث أو مع الواقع الذي يتشكل بالقوة أمام أعينهم؟! وهل سيستمر نضالهم القانوني الملتزم بقرارات الشرعية الدولية على أعتاب المحاكم الكفرية الإجرامية؟ أم يتعلمون من أخطائهم ويبدأون مرحلة مصالحة مع القواعد والثوابت الشرعية التي يؤكدها الواقع، من فرضية المواجهة بأدواتها الطبيعية؟

وبعيدا عن هذا.. تبقى الثوابت التي لا ولن ينساها المسلمون؛ وهي: إن القدس أول القبلتين وثالث الحرمين ومسرى رسول الله عليه الصلاة والسلام، يعني ليست مجرد حق تاريخي للفلسطينيين، بل هي إحدى مقدسات أمة الإسلام كافة، ولئن تخلت عنها حكومات العمالة والتطبيع، أو قصرت في شأنها قيادات السلمية والقانون الدولي.. فإن هناك من شباب المسلمين ورجالهم على أعتاب بيت المقدس من يدافعون عنها، ويبذلون أرواحهم ودماءهم رخيصة في سبيل استمرار المعركة، يُسَلِّم مَن قَضَى نَحْبَهُ الرَّايَةَ لمن ينتظر، وما يبدلون تبديلا، حتى يأتيهم وعدُ الله بالنصر وهم على ذلك.

وصدق من قال: “طريق تحرير القدس يبدأ بتحرير القاهرة ودمشق” والله من وراء القصد.


التعليقات