إضاءات من المنهج العلمي لابن تيمية.. هل كان ابن تيمية “فقيها وسطيا”؟

إن المتأمل للاختيارات العلمية لشيخ الإسلام ابن تيمية لا ينقضي عجبه وانبهاره، سواء من تعامله مع أدلة الشريعة، أو فهمه لتنوع الأدلة ولعلاقاتها ببعضها البعض ورتبها المتفاوتة، أو تحريره لأقوال أئمة الإسلام من قبله، أو فهمه للواقع ومراعاة تفاصيله بحيث يتوازن فيه بين الممكن والمطلوب.

فإذا تحول النظر إلى كثير من محبيه في واقعنا المعاصر، والذين يدعون الانتساب لمدرسته العلمية (بحق، أو بغيره)، فإننا نجزم أننا أمام مستوى آخر في العلم والفهم، بعيدا عن مستوى شيخ الإسلام. مما يجعلنا نجزم أن تلك الفجوة الهائلة الموجودة بين فهم شيخ الإسلام – رحمه الله – وأفهام أكثر هؤلاء مما يحتاج إلى جهد غير عادي في محاولة ردمها، ليقتربوا من منهجه العلمي بحق.

ولأجل هذا كان الرجاء أن تأتي كتاباتنا هذه فيما يساهم في بيان حقيقة المنهج العلمي لابن تيمية، ولو من بعض الزوايا التي رأينا أنها تحتاج إلى البيان، حين يتوهم التعارض، ويحتاج إلى الترجيح. وجعلناها في ثمانية منطلقات، مرتبة كما يلي:

المنطلق الأول: التمييز الدقيق بين دلالات الألفاظ (ذات الصلة ببعضها) بما يدفع وهم التعارض بينها.

إذ الألفاظ وعاء المعاني، ولا تقال الألفاظ إلا لتنقل المعاني (سواء أكانت أفكارا، أم مشاعر). ووجود صلة أو أكثر بين معاني لفظين (سواء أكانا مفردين، أو مركبين) هو الذي يتيح الفرصة لإمكان الوهم بتعارض بين المعنيين المرادين منهما.

وهذا التمييز الدقيق بين دلالات الألفاظ من العلم بـ (حدود ما أنزل الله على رسوله) والذي به يضبط معنى اللفظ الوارد في الشرع، فلا يدخل فيه ما ليس منه (توهما أنه منه)، ولا يخرج منه ما هو منه (توهما أنه ليس منه).

مثال: لفظي (العذاب) و (العقاب).

ففي الأحاديث الصحيحة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه” – وفي لفظ – : “من يُنَحْ عليه يعذب بما نِيحَ عليه” وفي الحديث الصحيح أن عبد الله بن رواحةَ لما أغمي عليه جعلت أخته تندب وتقول: واعضداه واناصراه. فلما أفاق قَال: ما قلت لي شيئا إلا قيل لي: أكذلك أنت؟.

وقد أنكر ذلك طوائف من السلف والخلف واعتقدوا أن ذلك من باب تعذيب الإنسان بذنب غيره فهو مخالف لقوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) [الإسراء – 15] ثم تنوعت طرقهم في تلك الأحاديث الصحيحة.

فمنهم من غلط الرواة لها كعمر بن الخطاب وغيره، وهذه طريقة عائشةَ والشافعي وغيرهما.

ومنهم من حمل ذلك على ما إذا أوصى به فيعذب على إيصائه وهو قول طائفة: كالمزني وغيره.

ومنهم من حمل ذلك على ما إذا كانت عادتهم فيعذب على ترك النهي عن المنكر وهو اختيار طائفة: منهم جدي أبو البركات.

وكل هذه الأقوال ضعيفة جدا. والأحاديث الصحيحة الصريحة التي يرويها مثل عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وأبي موسى الأشعري وغيرهم لا ترد بمثل هذا. وعائشة أم المؤمنين – رضي الله عنها – لها مثل هذا نظائر ترُدُّ الحديث بنوع من التأويل والاجتهاد لاعتقادها بطلان معناه ولا يكون الأَمر كذلك، ومن تدبر هذا الباب وجد هذا الحديث الصحيح الصريح الذي يرويه الثقة لا يرده أحد بمثل هذا إلا كان مخطئا.

وعائشة – رضي الله عنها – روت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – لفظين – وهي الصادقة فيما نقلته – فروت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قوله: “إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه” وهذا موافق لحديث عمر فإنه إذا جاز أن يزيده عذابا ببكاء أهله جاز أن يعذب غيره ابتداء ببكاء أهله؛ ولهذا رد الشافعي في مختلف الحديث هذا الحديث نظرا إلى المعنى، وقال: الأشبه روايتها الأخرى: “أنهم يبكون عليه وإنه ليعذب في قبره”.

والذين أقروا هذا الحديث على مقتضاه ظن بعضهم أن هذا من باب عقوبة الإنسان بذنب غيره وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، واعتقد هؤلاء أن الله يعاقب الإنسان بذنب غيره…

والمقصود هاهنا أن الله لا يعذب أحدا في الآخرة إلا بذنبه وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى وقوله: “إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه” ليس فيه أن النائحةَ لا تعاقب بل النائحة تعاقب على النياحة كما في الحديث الصحيح: “أن النائحة إذا لم تتب قبل موتها تلبس يوم القيامة درعا من جرب وسربالا من قطِران” فلا يحمل عمن ينوح وزره أحد.

وأما تعذيب الميت: فهو لم يقل: إن الميت يعاقب ببكاء أهله عليه، بل قال: “يُعذب” والعذاب أعم من العقاب فإن العذاب هو الألم، وليس كل من تألم بسبب كان ذلك عقابا له على ذلك السبب، فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم طعامه وشرابه” فسمى السفر عذابا وليس هو عقابا على ذنب. والإنسان يعذب بالأمور المكروهة التي يشعر بها، مثل الأصوات الهائلة والأرواح الخبيثة والصور القبيحة، فهو يتعذب بسماع هذا وشم هذا ورؤية هذا، ولم يكن ذلك عملا له عُوقب عليه، فكيف ينكر أن يعذب الميت بالنياحة وإن لم تكن النياحة عملا له يعاقب عليه؟.

والإنسان في قبره يعذب بكلام بعض الناس ويتألم برؤية بعضهم وبسماع كلامه ولهذا أفتى القاضي أبو يعلى: بأن الموتى إذا عمل عندهم المعاصي فإنهم يتألمون بها كما جاءت بذلك الآثار، فتعذيبهم بعمل المعاصي عند قبورهم كتعذيبهم بنياحة من ينوح عليهم، ثم النياحة سبب العذاب.

وقد يندفع حكم السبب بما يعارضه، فقد يكون في الميت من قوة الكرامة ما يدفع عنه من العذاب كما يكون في بعض الناس من القوة ما يدفع ضرر الأصوات الهائلة والأرواح والصور القبيحة. وأحاديث الوعيد يذكر فيها السبب، وقد يتخلف موجبه لموانع تدفع ذلك: إما بتوبة مقبولة وإما بحسنات ماحية وإما بمصائب مكفرة وإما بشفاعة شفيع مطاع وإما بفضل الله ورحمته ومغفرته فإنه (لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) [النساء – 48] وما يحصل للمؤمن في الدنيا والبرزخ والقيامة من الألم التي هي عذاب فإن ذلك يكفر الله به خطاياه، كما ثبت في الصحيحين عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه.” ” [24/270 – 275 – مجموع الفتاوى] .

فخلاصة كلامه:
  1. إن كل عقاب عذاب، وليس كل عذاب عقاب (فالعذاب أعم) .
  2. لا تلازم بين العذاب والذنب، فالتلازم إنما هو بين العقاب والذنب (أي : لا عقاب إلا بذنب).
  3. العقاب لا يكون إلا بكسب العبد، أما العذاب فيكون بكسبه وبغير كسبه (مما يؤلمه).
  4. قد يوجد سبب العذاب، لكن العذاب لا يقع، لمعارض من جهة المكلف، أو لمحض الفضل الرباني.
  5. كل عذاب هو كفارة لصاحبه (عقابا كان أو غيره).
  6. فالميت قد يتعذب (أي : يتألم) بكسب غيره، لكنه لا يعاقب به، والعذاب كفارة له.

ففي هذا المنطلق تضبط العلاقة بين (الألفاظ) ذات الصلة ببعضها.

المنطلق الثاني: اختيار الأقوال المتوسطة، التي تجمع بين الأدلة التي يعتبرها.

لأن الأصل إعمال كل دليل معتبر، هذا من جهة، فلا ينبغي المصير إلى إهدار أحد الدليلين وإبطال معناه بالكلية. ولأن الأصل أيضا أن الأدلة متعاضدة لبيان المعنى النهائي المراد، لصدورها عن مصدر واحد لا يمكن أن يتناقض، فلا بد أن يكون المعنى (محل التناقض) غير مراد، وهذا من جهة ثانية.

فيكون في اختيار القول المتوسط هنا إعمال لمجموع الأدلة، واستعمال لها كلها لتحرير الدلالة (المرادة) من بعضها ببعض .

مثال: اختيار (استحباب الوضوء من مس الذكر).

فقد تنازعوا في مس النساء ومس الذكر: هل ينقض؟

فمذهب أبي حنيفة: لا ينقض .

ومذهب الشافعي: ينقض .

ومذهب مالك: الفرق بين المس لشهوة وغيرها. وقد اختلفت الرواية عنه هل يعتبر ذلك في مس الذكر؟

واختلف في ذلك عن أحمد؛ وعنه كقول أبي حنيفة أنه لا ينقض شيء من ذلك وروايتان كقول مالك والشافعي.” [21/222 – مجموع الفتاوى]. وسبب ذلك “تعارض الأحاديث فيه” [21/15 – مجموع الفتاوى].

“والأظهر في جميع هذه الأنواع: أنها لا تنقض الوضوء. ولكن يستحب الوضوء منها. فمن صلى ولم يتوضأ منها صحت صلاته ومن توضأ منها فهو أفضل. ” [21/222 – مجموع الفتاوى] ” وهكذا صرح به الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه، وبهذا تجتمع الأحاديث والآثَار بحمل الأمر به على الاستحباب ليس فيه نسخ قوله: “وهل هو إلا بضعة منك؟” وحمل الأمر على الاستحباب أولى من النسخ.” [21/241 – مجموع الفتاوى] .

فخلاصة كلامه:
  1. إن (الأمر) دال على الطلب، لازما كان أو غير لازم (أي : الوجوب ، أو الاستحباب).
  2. والمنفي إنما هو (لزوم الطلب)، الذي هو أحد احتمالي دلالة (الأمر).
  3. فبإعمال مجموع الدليلين يظهر أن (الأمر) هنا (للطلب غير اللازم) وهو الاستحباب.

وفي هذا المنطلق تضبط العلاقة بين (المعاني) لكل الأدلة في المسألة [كما كان في مثالنا بين (الطلب) و(نفي الإلزام)].

المنطلق الثالث: اختيار الأقوال المتوسطة، والتي تكون مركبة من الطرفين، مراعاة لأدلتهما.

فقد تتكاثر الأدلة على قول، ويكون له تعليله الثابت، فلا يمكن المصير (بشكل مطلق) إلى القول الآخر تماما، هذا من جهة. كما أن القول الأول قد يكون في الأخذ به (بشكل مطلق) إهدار لدليل القول الآخر، من الجهة المقابلة. فيتعسر التوسط بالصورة التي سبقت في (المنطلق الثاني) إذ لا تجتمع الأدلة بمثله.

فيصار إلى قول (مركب من الطرفين) يراعي دليل كل قول وتعليله، فيفاوت في المناطات بحمل كل دليل على حال غير الحال التي يحمل عليها الدليل الآخر، ليتنزل كل دليل على مناط مختلف عن مناط الدليل الآخر، من خلال تخصيص عموم كل دليل بالدليل الآخر.

مثال: (وجوب غسل الجمعة على من له رائحة، واستحبابه لغيره).

فقد حكى إنه قد “تُنُوزِعَ في وجوبه” [21/311 – مجموع الفتاوى] فجمهور أهل العلم من المذاهب الأربعة على استحبابه لحديث: “من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة، وزيادة ثلاثة أيام” [مسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – في كتاب الجمعة، باب فضل من استمع وأنصت في الخطبة ] ولغيره من الأدلة.

لكنه قد ثبت أيضا “في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “حق لله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام: يغسل رأسه وجسده” وهذا في أحد قولي العلماء هو غسل راتب مسنون للنظافة في كل أسبوع وإن لم يشهد الجمعة. بحيث يفعله من لا جمعةَ عليه. وعن جابر قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : “على كل رجل مسلم في كل سبعة أيام غسل يوم وهو يوم الجمعة” رَوَاهُ أَحْمَد وَالنَّسَائِي. وهذا لفظه وأبو حاتم البستي. وأما الأحاديث في الغسل يوم الجمعة فمتعددة. وذاك يعلل باجتماع الناس بدخول المسجد وشهود الملائكة ومع العبد ملائكة وقد ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم”” [21/307 – 308 – مجموع الفتاوى].

فكان اختيار الشيخ – رحمه الله – لتنازع الأدلة مع تعليل الوجوب، أنه “يجب غسل الجمعة على من له عرق أو ريح يتأذى به غيره” [5/307 – الفتاوى الكبرى] مع ثبوت الاستحباب في حق غيره.

فخلاصة كلامه:
  1. إن أدلة الوجوب قد جاءت (مطلقة، ومعللة).
  2. وإن أدلة التخيير قد جاءت (مطلقة) فقط.
  3. فيختص الوجوب (بحال وجود علته) ويختص التخيير (بحال غياب علة الوجوب).

وهذا المنطلق كالذي قبله، إذ تضبط فيه العلاقة بين (المعاني)، لكن ذلك يكون هنا من خلال تنويع مناطات الأدلة [ كما في مثالنا بين (الإلزام المعلل) و(التخيير المطلق)].

المنطلق الرابع: اختيار الأقوال المتوسطة التي تجمع بين الأدلة، وبين فهم أكابر الصحابة المعتبر لها.

لأن البلاغ المبين الذي حصل لهذا الدين، تم بوصول ألفاظه ومعانيه إلى المخاطبين به، وشهد لهم بالإيمان الحق ورضي الله عن دينهم (هذا). ومن هنا كان فهمهم للوحي معتبرا في الحكم على صوابية فهم غيرهم ممن بعدهم، أو خطأ ذلك الفهم.

لكن ذلك الاعتبار له درجات، فما أجمعوا عليه شيء، وما نقل عن بعضهم دون مخالف من طبقتهم شيء آخر، وما حصل فيه الخلاف بينهم شيء ثالث [ولتفصيل ذلك محل آخر].

مثال: (مشروعية الزيادة في مدة مسح الخفين للحاجة).

مع أن “مسحه موقت عند الجمهور؛ فإن فيه خمسة أحاديث عن النبي – صلى الله عليه وسلم – لكن لو كان في خلعه بعد مضي الوقت ضرر – مثل: أن يكون هناك برد شديد متى خلع خفيه تضرر كما يوجد في أرض الثلوج وغيرها؛ أو كان في رفقة متى خلع وغسل لم ينتظروه فينقطع عنهم فلا يعرف الطريق؛ أو يخاف إذا فعل ذلك من عدو أو سبع؛ أو كان إذا فعل ذلك فاته واجب ونحو ذلك – فهنا قيل: إنه يتيمم: وقيل: إنه يمسح عليهما للضرورة. وهذا أقوى لأن لبسهما هنا صار كلبس الجبيرة من بعض الوجوه فأحاديث التوقيت فيها الأمر بالمسح يوما وليلة وثلاثة أيام ولياليهن وليس فيها النهي عن الزيادة إلا بطريق المفهوم والمفهوم لا عموم له؛ فإِذا كان يخلع بعد الوقت عند إمكان ذلك عمل بهذه الأحاديث.

وعلى هذا يحمل حديث عقبة بن عامر لما خرج من دمشق إلى المدينة يبشر الناس بفتح دمشق ومسح أسبوعا بلا خلع فقال له عمر: أصبت السنة، وهو حديث صحيح. وليس الخف كالجبيرة مطلقا؛ فإنه لا يستوعب بالمسح بحال؛ ويخلع في الطهارة الكبرى؛ ولا بد من لبسه على طهارة. لكن المقصود: أنه إذا تعذر خلعه فالمسح عليه أولى من التيمم وإن قدر أنه لا يمكن خلعه في الطهارة الكبرى فقد صار كالجبيرة يمسح عليه كله كما لو كان على رجله جبيرة يستوعبها. وأيضا فإن المسح على الخفين أولى من التيمم؛ لأنه طهارة بالماء فيما يغطي موضع الغسل؛ وذاك مسح بالتراب في عضوين آخرين: فكان هذا البدل أقرب إلى الأصل من التيمم؛ ولهذا لو كان جريحا وأمكنه مسح جراحه بالماء دون الغسل: فهل يمسح بالماء أو يتيمم؟ فيه قولان. هما روايتان عن أحمد ومسحهما بالماء أصح؛ لأنه إذا جاز مسح الجبيرة ومسح الخف وكان ذلك أولى من التيمم فلأن يكون مسح العضو بالماء أولى من التيمم بطريق الأولى. ” [21/177 – 178 – مجموع الفتاوى] ” فغلب على ظني عدم التوقيت عند الحاجة كما قلنا في الجبيرة ونزلت حديث عمر وقوله لعقبة بن عامر: “أصبت السنة” على هذا توفيقا بين الآثَار ثم رأيته مصرحا به في مغازي ابن عائد أنه كان قد ذهب على البريد كما ذهبت لما فتحت دمشق ذهب بشيرا بالفتح من يوم الجمعة إلى يوم الجمعة فقال له عمر: منذ كم لم تنزع خفيك؟ فقال: منذ يوم الجمعة قال: أصبت” ” [21/215 – مجموع الفتاوى].

فخلاصة كلامه:
  1. إن الأصل في مسح الخفين : توقيت مشروعيته، للأحاديث (كما هو مذهب الجمهور).
  2. وأثر عقبة بن عامر مع عمر – رضي الله عنهما – يدل على أن الحاجة تسوغ تجاوز التوقيت.
  3. الأولى عدم إهدار أي من (أحاديث التوقيت) أو (أثر عقبة مع عمر [والذي رجح البعض بمقتضاه عدم اشتراط التوقيت]).
  4. فالتوقيت مثل كل (الأوامر الشرعية) مقيد بالإمكان، ويتم تجاوزه (للحاجة، أو للضرورة [على تفصيل ليس هذا محله]).
  5. الإمكان لا ينظر فيه إلى الفعل فقط، بل ينظر فيه إليه وإلى ما يترتب عليه (بمعطيات الواقع) [وهذا عام في مسائل الشريعة].
  6. وعندما تكون البدائل محصورة [هنا: التيمم، أو المسح. لعدم إمكان الوضوء (بالغسل)] فالمختار ما هو أقرب إلى الأصل [وهو هنا: المسح].

في هذا المنطلق نجد ضبطا للعلاقة بين المعنى الذي نفهمه من لفظ (الأدلة) وبين (الفهم) المعتبر في نفس المسألة، والمنقول لنا عن أكابر الصحابة.

المنطلق الخامس : اختيار الأقوال التي تجمع بين تفسير (دليل المسألة الجزئية) وتفسير (القاعدة) في مسائل الباب المتضمن لها، بحيث يكونان متسقين.

إذ أن وحدة مصدر التشريع مع اتصاف صاحبه بالكمال، تفرض كمال الاتساق بين مسائل كل باب (والذي يشمل نوعا من القضايا المترابطة)، وهذا على مستوى كل باب ابتداء، ثم على مستوى الأبواب المتنوعة انتهاء.

وهذا الاتساق والترابط هو الذي أنتج لنا علم (القواعد الفقهية) ، بل إن خروج (إحدى المسائل) عن إحدى القواعد لا يكون على الحقيقة إلا دخولا تحت قاعدة أخرى أقوى أثرا فيها، فهذا الذي علل كونها مستثناة من القاعدة الأولى .

لذلك كانت حقيقة الفقه أن “تجمع بين ما جمع الله بينه ورسوله ، وأن تفرق بين ما فرق الله بينه ورسوله” من خلال إحكام كل من المعاني (الجامعة، والفارقة).

مثال: (مشروعية بيع غير الموجود وقت العقد، مما يكون موجودا وقت التسليم).

“وأما قولهم: السلم على خلاف القياس فقولهم هذا من جنس ما رووا عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “لا تبع ما ليس عندك” وأرخص في السلم” وهذا لم يرو في الحديث وإنما هو من كلام بعض الفقهاء. وذلك أَنهم قالوا: السلم بيع الإنسان ما ليس عنده فيكون مخالفا للقياس ونهي النبي – صلى الله عليه وسلم – حكيم بن حزام عن بيع ما ليس عنده: إما أن يراد به بيع عين معينة فيكون قد باع مال الغير قبل أن يشتريه وفيه نظر. وإما أن يراد به بيع ما لا يقدر على تسليمه وإن كان في الذمة وهذا أشبه؛ فيكون قد ضمن له شيئا لا يدري هل يحصل أو لا يحصل؟ وهذا في السلم الحال إذا لم يكن عنده ما يوفيه والمناسبة فيه ظاهرة.

فأما السلم المؤجل فإنه دين من الديون، وهو كالابتياع بثمن مؤجل، فأي فرق بين كون أحد العوضين مؤجلا في الذمة وكون العوض الآخر مؤجلا في الذمة؟ وقد قال – تعالى – : (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) [البقرة – 282] وقال ابن عباس: أشهد أن السلف المضمون في الذمة حلال في كتاب الله وقرأ هذه الآية فإباحة هذا على وفق القياس لا على خلافه.” [20/529 – 530 – مجموع الفتاوى].

فخلاصة كلامه:
  1. إن قاعدة البيع المشروع شاملة لكل صور ما شرع من البيوع، ومنها بيع السلم.
  2. يقاس على مشروعية كون الثمن دينا مؤجلا، مشروعية كون المبيع دينا مؤجلا، فهما العوضان في عقد البيع (الذي هو من عقود المعاوضة، خلافا لعقود التبرع).
  3. وبناء على ما سبق، يتوجه النهي عن بيع غير الموجود إلى أحد معنيين:
  • إما أن تكون عينا معينة مملوكة للغير، فتكون مقامرة ممنوعة (ولم يرجح شيخ الإسلام أن يكون هذا هو مقصود النهي، استظهارا من سياق الحديث، وإن كانت صورة محتملة الدخول تحت اللفظ والحكم).
  • وإما أن تكون عينا موصوفة في الذمة، فلا بد أن يرجع المنع إلى سبب آخر، وهو عدم القدرة على تسليمه في الوقت المحدد لذلك (وهذا ما رجح شيخ الإسلام أن يكون مقصودا من النهي).

4. ليكون تفسير النهي “لا تبع ماليس عندك” متسقا مع مشروعية (بيع السلم) و (البيع بالثمن الآجل) في ظل (قاعدة عقود البيع) في الشريعة الإسلامية.

5. وهذا خلافا لمن اعتبر (بيع السلم) رخصة استثنائية، ليست على (قاعدة عقود البيع) في الشريعة، والتي تتضمن عنده وجود المبيع وقت العقد عند البائع، وبالتالي جعل النهي في “لا تبع ماليس عندك” شاملا لكل من (وقت التسليم) [وهذا لا خلاف على دخوله تحت هذا النهي] و (وقت العقد) [وهذا ما خالفهم فيه شيخ الإسلام لما سبق].

في هذا المنطلق نجد اختياره في فهم دليل المسألة (النهي عن بيع ما ليس عند البائع) وفق ما يتسق مع فهم (القاعدة) في باب البيوع، وترجيح ذلك على ما يجعل مسألة من مسائل الباب استثناء من قاعدته.

المنطلق السادس: اختيار الأقوال التي تطرد مع غيرها، في ظل القاعدة السارية في مسائل الباب.

إذ الأصل – كما سبق – اتساق مسائل كل باب، في ظل كمال اتساق الشرع بمجموعه. لكن الأبواب لخصوصية جمعها ما يترابط من المسائل بعلاقة أوثق، يكون ظهور هذا الاتساق فيها أوضح في تفاصيل المسائل المختلفة.

فإذا وردت مسألة ليس فيها بخصوصها دليل يصلح للاعتماد عليه، فلا شك أن الأولى فيها بالصواب ما يجعل حكمها مطردا مع غيرها من المسائل، والتي تدخل كلها تحت قاعدة واحدة سارية في الباب، دون لجوء إلى التخصيص بغير مخصص صحيح سالم من المعارض.

والفرق بين هذا المنطلق (السادس) والمنطلق السابق (الخامس) أننا في السابق كان التعامل مع (دليل) يحتاج إلى ترجيح تفسير من جملة تفسيرات محتملة، أما هنا فإن التعامل مع مسألة ليس فيها دليل خاص، والحكم عليها سيكون اجتهادا بوضعها في مكانها الصحيح بين أشباهها من المسائل الشرعية.

مثال: (طهارة لبن الميتة إذا لم يتغير بالنجاسة).

فقد قرر أنه “أما لبن الميتة وإنفحتها ففيه قولان مشهوران للعلماء:

أحدهما: أن ذلك طاهر. كقول أبي حنيفة وغيره وهو إحدى الروايتين عن أحمد.

والثاني: أنه نجس. كقول مالك والشافعي والرواية الأخرى عن أحمد.

وعلى هذا النزاع انبنى نزاعهم في جبن المجوس فإن ذبائح المجوس حرام عند جماهير السلف والخلف وقد قيل: إن ذلك مجمع عليه بين الصحابة فإذا صنعوا جبنا – والجبن يصنع بالإنفحة – كان فيه هذان القولان. والأظهر أن جبنهم حلال وأن إنفحة الميتة ولبنها طاهر وذلك لأن الصحابة لما فتحوا بلاد العراق أكلوا جبن المجوس وكان هذا ظاهرا شائعا بينهم وما ينقل عن بعضهم من كراهة ذلك ففيه نظر فإنه من نقل بعض الحجازيين وفيه نظر. وأهل العراق كانوا أعلم بهذا فإن المجوس كانوا ببلادهم ولم يكونوا بأرض الحجاز.

ويدل على ذلك أن سلمان الفارسي كان هو نائب عمر بن الخطاب على المدائن وكان يدعو الفرس إلى الإسلام وقد ثبت عنه: أنه سئل عن شيء من السمن والجبن والفراء؟ فقال: الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفى عنه. وقد رواه أبو داود مرفوعا إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – . ومعلوم أنه لم يكن السؤال عن جبن المسلمين وأهل الكتاب فإن هذا أمر بين وإنما كان السؤال عن جبن المجوس: فدل ذلك على أن سلمان كان يفتي بحلها وإذا كان روي ذلك عن النبي – صلى الله عليه وسلم – انقطع النزاع بقول – النبي صلى الله عليه وسلم -.

وأيضا فاللبن والإنفحة لم يموتا وإنما نجسهما من نجسهما لكونهما في وعاء نجس فيكون مائعا في وعاء نجس فالتنجيس مبني على مقدمتين على أن المائع لاقى وعاء نجسا وعلى أنه إذا كان كذلك صار نجسا.

فيقال أولا: لا نسلم أن المائع ينجس بملاقاة النجاسة وقد تقدم أن السنة دلت على طهارته لا على نجاسته.

ويقال ثَانيا: إن الملاقاة في الباطن لا حكم لها كما قال – تعالى -: (نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين) [النحل – 66] ولهذا يجوز حمل الصبي الصغير في الصلاة مع ما في بطنه. والله أعلم. ” [21/102 – 104 – مجموع الفتاوى].

فإن “أصل هذه المسألة أن المائعات إذا وقعت فيها نجاسة: فهل تنجس وإن كانت كثيرة فوق القلتين؟ أو تكون كالماء فلا تنجس مطلقا إلا بالتغير؟ أو لا ينجس الكثير إلا بالتغير كما إذا بلغت قلتين. فيه عن أحمد ثلاث روايات:

إحداهن أنها تنجس ولو مع الكثرة. وهو قول الشافعي وغيره.

والثانية: أنها كالماء. سواء كانت مائية أو غير مائية وهو قول طائفة من السلف والخلف: كابن مسعود وابن عباس والزهري وأبي ثور وغيرهم. وهو قول أبي ثور نقله المروذي عن أبي ثور ويحكى ذلك لأحمد فقال: إن أبا ثور شبهه بالماء ذكر ذلك الخلال في جامعه عن المروذي.

وكذلك ذكر أصحاب أبي حنيفة أن حكم المائعات عندهم حكم الماء ومذهبهم في المائعات معروف فيه. فَِذا كانت منبسطة بحيث لا يتحرك أحد طرفيها بتحرك الطرف الآخر لم تنجس كالماء عندهم. وأما أبو ثور فإنه يقول: بالعكس. بالقلتين كالشافعي.

والقول أنها كالماء يذكر قولا في مذهب مالك وقد ذكر أصحابه عنه في يسير النجاسة إذا وقعت في الطعام الكثير روايتين وروي عن أبي نافع من المالكية في الحباب التي بالشام للزيت تموت فيه الفأرة أن ذلك لا يضر الزيت قال: وليس الزيت كالماء. وقال ابن الماجشون في الزيت وغيره تقع فيه الميتة ولم تغير أوصافه وكان كثيرا لم ينجس؛ بخلاف موتها فيه ففرق بين موتها فيه ووقوعها فيه ومذهب ابن حزم وغيره من أهل الظاهر أن المائعات لا تنجس بوقوع النجاسة إلا السمن إذا وقعت فيه فأرة كما يقولون إن الماء لا ينجس إلا إذا بال فيه بائل.

والثالثة: يفرق بين المائع المائي. كخل الخمر وغير المائي كخل العنب فيلحق الأول بالماء دون الثاني.

وفي الجملة للعلماء في المائعات ثلاثة أقوال: أحدها: أنها كالماء. والثاني: أنها أولى بعدم التنجس من الماء لأنها طعام وإدام فإتلافها فيه فساد ولأنها أشد إحالة للنجاسة من الماء أو مبايِنة لها من الماء. والثالث: أن الماء أولى بعدم التنجس منها لأنه طهور…

لكن طائفة من أصحاب مالك قالوا: إن قليل الماء ينجس بقليل النجاسة ولم يحدوا ذلك بقلتين وجمهور أهل المدينة أطلقوا القول فهؤلاء لا ينجسون شيئا إلا بالتغير ومن سوى بين الماء والمائعات كإحدى الروايتين عن أحمد وقال بهذا القول الذي هو رواية عن أحمد قال في المائعات كذلك كما قاله الزهري وغيره. فهؤلاء لا ينجسون شيئا من المائعات إلا بالتغير كما ذكره البخاري في صحيحه …

ومن تدبر الأصول المنصوصة المجمع عليها والمعاني الشرعية المعتبرة في الأحكام الشرعية تبين له أن هذا هو أصوب الأقوال فإن نجاسة الماء والمائعات بدون التغير بعيد عن ظواهر النصوص والأقيسة وكون حكم النجاسة يبقى في مواردها بعد إزالة النجاسة بمائع أو غير مائع بعيد عن الأصول وموجب القياس. ومن كان فقيها خبيرا بمآخذ الأحكام الشرعية وأزال عنه الهوى تبين له ذلك ” [21/488 – 509 – مجموع الفتاوى].

فخلاصة كلامه:
  1. إن اللبن ليس مما يتجنس بالموت، إذ أنه لم يمت، لعدم قيام الحياة الحيوانية فيه ابتداء (والتي تتسم بالحس والحركة الإرادية) ، وبالتالي فهو لم يمت ليدخل في حكم (نجاسة الميتة).
  2. إن من يحكم بنجاسته، فإنما يستند إلى كونه مائعا قليلا (وهناك من لا يفرق بين قليل المائعات وكثيرها) لاقى نجاسة الوعاء الذي يحفظه داخل بدن الميتة، فيتنجس بالملاقاة للنجاسة.
  3. يرد على الحكم بالنجاسة بناء على التعليل السابق اعتراضان:
  • تفريق الشرع بين الملاقاة في باطن الحيوان (أو الإنسان) وبين الملاقاة في الظاهر، فإن الملاقاة في الباطن لا حكم لها .
  • التسوية بين المائعات والماء، في عدم التنجيس إلا إذا تغيرت بالنجاسة.

4. لا تطرد قاعدة الحكم بالتنجيس والتطهير إلا بهذه التسوية بينها، وهو ما تشهد له الأدلة العامة مع الأدلة الخاصة في أفراد من مسائل الباب .

5. ولم يصح دليل سالم من المعارض يخالف هذا الاختيار، بل الأدلة تدعم المصير إليه .

وفي هذا المنطلق نجد طرد (قاعدة الباب) في كل مسائله الجزئية، فيستوي تحتها ما ورد بخصوصه دليل مخصوص، وما لم يرد مما يستنبط حكمه باجتهاد يلائمه.

المنطلق السابع: اختيار الأقوال التي تجمع بين دليل (المسألة الجزئية) وبين (القاعدة) السارية في مسائل الأبواب الشرعية المختلفة.

فإن الأبواب المختلفة تبقى في نسيج نظام تشريعي موحد، بما يجعلها تحت كليات مشتركة – كما سبق – . فعندما يتجاذب المسألة الجزئية قولان، ولكل قول وجهته التي أدت ببعض المجتهدين إلى اختياره، فإنه مما يرجح به أحدهما أن يكون متسقا مع إحدى القواعد السارية في أبواب مختلفة من الشريعة، ومطردا مع كثرة من المسائل الجزئية المتنوعة.

في المنطلق السابق (السادس) كان النظر إلى القاعدة السارية في الباب الذي تنتمي له المسألة، أما في هذا المنطلق (السابع) فإن النظر لا يكتفي بذلك، بل يضم إليه النظر الأوسع إلى القاعدة السارية فيه وفي غيره من الأبواب. وفي هذا من فهم البناء المحكم للشريعة عموما، ما يفتح آفاقا من رؤية شيء من إعجازها الإلهي.

مثال: (طهارة شعر الكلب مع نجاسة لحمه).

” أما الكلب فللعلماء فيه ثلاثة أقوال معروفة:

أحدها: أنه نجس كله حتى شعره كقول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه.

والثاني: أنه طاهر حتى ريقه كقول مالك في المشهور عنه.

والثالث: أن ريقه نجس وأن شعره طاهر وهذا مذهب أبي حنيفة المشهور عنه وهذه هي الرواية المنصورة عند أكثر أصحابه وهو الرواية الأخرى عن أحمد وهذا أرجح الأقوال .

فإذا أصاب الثوب أو البدن رطوبة شعره لم ينجس بذلك وإذا ولغ في الماء أريق وإذا ولغ في اللبن ونحوه: فمن العلماء من يقول: يُؤكل ذلك الطعام، كقول مالك وغيره. ومنهم من يقول يراق كمذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد. فأما إن كان اللبن كثيرا فالصحيح أنه لا ينجس.

وله في الشعور النابتة على محل نجس ثلاث روايات:

إحداها: أن جميعها طاهر حتى شعر الكلب والخنزير وهو اختيار أبي بكر عبدالعزيز.

والثانية: أن جميعها نجس كقول الشافعي.

والثالثة: أن شعر الميتة إن كانت طاهرة في الحياة كان طاهرا كالشاة والفأرة وشعر ما هو نجس في حال الحياة نجس: كالكلب والخنزير وهذه هي المنصوصة عند أكثر أصحابه.

والقول الراجح هو طهارة الشعور كلها: شعر الكلب والخنزير وغيرهما بخلاف الريق وعلى هذا فإذا كان شعر الكلب رطبا وأصاب ثوب الإنسان فلا شيء عليه كما هو مذهب جمهور الفقهاء: كأبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه:

وذلك لأن الأصل في الأعيان الطهارة فلا يجوز تنجيس شيء ولا تحريمه إلا بدليل. كما قال – تعالى – : (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه) [الأنعام – 119] وقال – تعالى – : (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون) [التوبة – 115] وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: “إن من أعظم المسلمين بالمسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته”. وفي السنن عن سلمان الفارسي مرفوعا. ومنهم من يجعله موقوفا أنه قال: “الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه”.

وإذا كان كذلك فالنبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبعا أولاهن بالتراب” وفي الحديث الآخر: “إذا ولغ الكلب” . فأحاديثه كلها ليس فيها إلا ذكر الولوغ، لم يذكر سائر الأجزاء، فتنجيسها إنما هو بالقياس.

فإذا قيل: إن البول أعظم من الريق كان هذا متوجها. وأما إلحاق الشعر بالريق فلا يمكن؛ لأن الريق متحلل من باطن الكلب بخلاف الشعر فإنه نابت على ظهره. والفقهاء كلهم يفرقون بين هذا وهذا. فإن جمهورهم يقولون: إن شعر الميتة طاهر بخلاف ريقها .

والشافعي وأكثرهم يقولون: إن الزرع النابت في الأرض النجسة طاهر فغاية شعر الكلب أن يكون نابتا في منبت نجس كالزرع النبت في الأرض النجسة فإذا كان الزرع طاهرا فالشعر أولى بالطهارة لأن الزرع فيه رطوبة ولين يظهر فيه أثر النجاسة بخلاف الشعر فإن فيه من اليبوسة والجمود ما يمنع ظهور ذلك .

فمن قال من أصحاب أحمد كابن عقيل وغيره: إن الزرع طاهر فالشعر أولى ومن قال إن الزرع نجس فإن الفرق بينهما ما ذكر فإن الزرع يلحق بالجلالة التي تأكل النجاسة وهذا أيضا حجة في المسألة فإن الجلالة التي تَأكل النجاسة قد نهى النبي – صلى الله عليه وسلم – عن لبنها فإذا حبست حتى تطيب كانت حلالا باتفاق المسلمين؛ لأنها قبل ذلك يظهر أثر النجاسة في لبنها وبيضها وعرقها فيظهر نتن النجاسة وخبثها فإذا زال ذلك عادت طاهرة فإن الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها. والشعر لا يظهر فيه شيء من آثَار النجاسة أصلا فلم يكن لتنجيسه معنى. ” [21/616 – 618 – مجموع الفتاوى].

فخلاصة كلامه:
  1. الأصل في الأعيان الطهارة (ومنها شعر الكلب) ، فلا يجوز التنجيس إلا بدليل [فهذه قاعدة عامة في الشريعة] .
  2. لم تذكر الأحاديث المفيدة للنجاسة إلا ريق الكلب، لا غير، ولا يصلح قياس الشعر عليه (فجمهور الفقهاء على طهارة شعر الميتة، مع نجاسة ريقها، وكل الفقهاء يفرقون بين المتحلل من الباطن وبين النابت على الظهر) [وهذه قاعدة عامة في التفريق، متعلقة بأحكام الحيوان].
  3. من يختارون طهارة الزرع النابت في الأرض النجسة، فإنه يلزمهم الحكم بطهارة الشعر النابت في البدن النجس (وهو هنا : شعر الكلب) ، وهذا بالأولوية لا بالتسوية، فإن الزرع فيه من رطوبة منبته، بخلاف الشعر الذي ليس فيه من رطوبة منبته [وهذا إلزام لمن يعتمد قاعدة التفريق بين النابت والمنبت، المتعلقة بأحكام الزروع].
  4. من يختارون نجاسة الزرع النابت في الأرض النجسة، إلحاقا له في الحكم بنجاسة الجلالة (التي تتغذى على النجاسة) ، يقولون إنها تطهر إذا حبست عن النجاسة (كما في الحديث) ، حتى يزول أثر النجاسة الذي كان يظهر في عرقها ولبنها وبيضها، فإذا زال ذلك الأثر عادت طاهرة (باعتبار طهارتها في أصلها) ، والشعر لا يظهر فيه شيء من أثر النجاسة أصلا، فلا وجه للقول بتنجيسه [وهذا إعمال لقاعدة ارتباط الحكم بعلته وجودا وعدما – وهي قاعدة عامة في الشريعة – ، وإلزام بالحكم بتطهير ما تغذى على النجاسة إذا زال عنه أثر تلك النجاسة، فمن الأولى الحكم بتطهير ما لا يظهر عليه أثر التغذي بالنجاسة أصلا].

وفي هذا المنطلق نجد طردا (لقواعد عامة) في مختلف أبواب الشريعة، وفهما (لدليل المسألة) الجزئية بما يتسق معها كلها، فتتوافق في الحكم أفراد المسائل المتشابهة (من جهة اشتراكها في علة ذلك الحكم)، ويزول التناقض بين الاختيارات في مختلف المسائل.

المنطلق الثامن: اختيار الأقوال المتوسطة التي تجمع بين (ظواهر) معاني الألفاظ وبين (مقاصد) معاني الأحكام.

فإنه لا خلاف بين أهل العلم أن الشريعة إنما جاءت لمصلحة العباد في العاجل والآجل، وأن مصلحة الدنيا تقصد لأجل مصلحة الآخرة.

بل إن تفريقهم بين (العباديات) و (العاديات) إنما كان باعتبار ظهور تفاصيل تلك المصالح المقصودة لنا أو خفائها عنا، فمقصود العباديات مفهوم لنا من حيث الإجمال، لبنائها على قاعدة (التقرب المحض) لله – سبحانه وتعالى -، أما العاديات فإننا نفهم مقاصدها التفصيلية باعتبار ما تحققه من مصالح جزئية وكلية ظاهرة للناس.

والأصل في كل (حكم) أن يحقق معناه (المصلحة المقصودة) التي لأجلها شرع ذلك الحكم، وهذا الأصل مطرد على وجه العموم. لكن ذلك لا يمنع من أحوال استثنائية، لا يحقق فيها معنى الحكم مقصوده بل يتجرد عنه، أو ربما استدعى ما ينافيه بدرجات تكثر أو تقل، وعندها يكون الاجتهاد في ترجيح ما يغلب الشرع كفته، ولشيخ الإسلام جهد مميز من خلال تبني هذه المنطلق، يظهر أثره في جملة كثيرة من اختياراته وفتاواه.

مثال: (مشروعية إخراج القيمة في الزكاة والكفارة للحاجة).

فمن المقرر أن ” الزكاة مبناها على المواساة، وهذا معتبر في قدر المال وجنسه ” [25/82 – مجموع الفتاوى] “وصدقة الفطر من جنس الكفارات، هذه معلقة بالبدن، وهذه معلقة بالبدن، بخلاف صدقة المال، فإنها تجب بسبب المال من جنس ما أعطاه الله. ” [25/69 – مجموع الفتاوى] وإنما تتحقق المواساة بهذا، لأن “الأصل في الصدقات أنها تجب على وجه المساواة للفقراء، كما قال – تعالى – : (من أوسط ما تطعمون أهليكم) [المائدة – 89].” [25/69 – مجموع الفتاوى].

لذلك فقد اختلفت الأقوال في “إخراج القيمة في الزكاة والكفارة ونحو ذلك:

فالمعروف من مذهب مالك والشافعي أنه لا يجوز.

وعند أبي حنيفة يجوز.

وأحمد – رحمه الله – قد منع القيمة في مواضع، وجوزها في مواضع، فمن أصحابه من أقر النص، ومنهم من جعلها على روايتين. ” [25/82 – مجموع الفتاوى] ” واختاروا المنع، لأنه المشهور عنه، كقول الشافعي. ” [25/46 – مجموع الفتاوى] مع أنه خلاف ” المنصوص عن أحمد صريحا، فإنه منع من إخراج القيم، وجوزه في مواضع للحاجة … وهذا القول أعدل الأقوال … فإن الأدلة الموجبة للعين نصا وقياسا، كسائر أدلة الوجوب. ومعلوم لأن مصلحة وجوب العين، قد يعارضها أحيانا في القيمة من المصلحة الراجحة، وفي العين من المشقة المنفية شرعا. ” [25/46 – مجموع الفتاوى].

فيكون “الأظهر في هذا: أن إخراج القيمة لغير حاجة ولا مصلحة راجحة، ممنوع منه… أما إخراج القيمة للحاجة أو المصلحة أو العدل، فلا بأس به.

مثل أن يبيع ثمر بستانه، أو زرعه بدراهم، فهنا إخراج عشر الدراهم يجزيه، ولا يكلف أن يشتري ثمرا، أو حنطة، إذ كان قد ساوى الفقراء بنفسه، وقد نص أحمد على جواز ذلك.

ومثل أن يجب عليه شاة في خمس من الإبل، وليس عنده من يبيعه شاة، فإخراج القيمة هنا كاف، ولا يكلف السفر إلى مدينة أخرى ليشتري شاة.

ومثل أن يكون المستحقون للزكاة طلبوا منه إعطاء القيمة، لكونها أنفع، فيعطيهم إياها، أو يرى الساعي أن أخذها أنفع للفقراء ” [25/82 – 83 – مجموع الفتاوى].

فخلاصة كلامه:
  1. إن وجوب الزكاة قد يتعلق بالبدن (كزكاة الفطر والكفارات) وقد يتعلق بالمال (كزكاة المال والزرع والأنعام).
  2. و(حكم الزكاة) له (مصلحة مقصودة)، وهي المواساة من خلال المساواة.
  3. فيتحقق ذلك فيما يتعلق بالبدن، بإخراج طعام (مما يقتاته) من وجبت عليه. ويتحقق فيما يتعلق بالمال، بإخراج مال (من جنس ما يملك) مماوجبت فيه الزكاة.
  4. و(أدلة وجوب) ما سبق بالنص والقياس كثيرة.
  5. لكنها كسائر (أدلة الوجوب)، قد يعارضها أحيانا ما هو أولى منها [وهذه قاعدة عامة].
  6. فقد تعارضها (المصلحة المقصودة) منها، بأن:
  • تحصل المساواة بالقيمة لا بالعين.
  • أو يحصل الحرج في توفير العين، بخلاف القيمة.
  • أو تكون القيمة أنفع للفقراء من العين (وهم الذين يقصد سد حاجتهم وإغناؤهم بها).

7. فيشرع – على سبيل الاستثناء – حينها إخراج القيمة، تقديما (للمصلحة المقصودة الراجحة) على (معنى الحكم) الملزم بالعين دون القيمة.

8. ويكون في هذا إعمال (للحكم بوجوب إخراج العين) في عموم الأحوال، لإفضائه فيها إلى مقصوده، والخروج عنه في أحوال خاصة، تقديما (للمصلحة المقصودة منه بإخراج القيمة) حيث تعارضا في هذه الأحوال.

9. إذ تتغير الفتوى تبعا لتغير الواقع، ليتنزل كل حكم على واقعه الذي شرع له، فيحقق فيه مصلحته المقصودة، وبناء عليه تأتي الفتوى تتوسط بين الإلزام العام (الذي دلت عليه ظواهر الأدلة الشرعية) وبين التجويز الخاص بمخالفة ذلك الإلزام (مراعاة للمصلحة المقصودة من الحكم) في الواقع المختلف، الذي حصل فيه انفكاك بين الحكم وبين مصلحته المقصودة [وهذه قاعدة عامة تحتاج إلى مزيد بسط، ليس هذا محله].

ففي هذا المنطلق نجد التوسط بين (الإلزام مطلقا) تقديما لمعاني الأحكام دائما، وبين (التخيير مطلقا) تقديما للمصلحة المقصودة دائما. إذ الأصل العام إفضاء الحكم إلى مصلحته، فيفتى بظاهر الحكم (وهو هنا الإلزام) في عموم الحوال، ويفتى بالخروج عنه (وهو هنا بمشروعية مخالفة ذلك الإلزام) على سبيل الاستثناء، حيث كان الراجح تحقيق ذلك الخروج للمصلحة المقصودة، أو ما كان في معنى ذلك.

في الختام:

أؤكد أن هذا فتح لباب البحث في هذه المنطلقات، وفي أشباهها، وليس إنهاء له، مما يجلي العقلية العلمية المبهرة لفقهائنا، ويجدد فهمنا لأدلة الشريعة وأحكامها، بثوابتها الرصينة وبمرونتها الواقعية، وكيفية تحقيقها لمصالح العباد في الدارين، على أكمل الوجوه.

وقد حرصت على أن يكون هذا البيان متدرجا في عرضه:

فبدأت بعرض التوسط بين معاني الألفاظ ذات الصلة ببعضها، بما يزيل وهم التعارض بينها.

ثم التوسط بين معاني الأدلة، لينزل الحكم المتوسط بينها على المناط الواحد المشترك بينها.

ثم التوسط بطريقة أخرى بين الأدلة، بتنزيل أحكامها المختلفة على مناطات مختلفة.

ثم التوسط بين الأدلة وبين فهم الصحابة لها – لحجية فهمهم -، من خلال توضيح العلاقة بين الأحكام الأصلية والأحكام الاستثنائية، ومناط كل منهما.

ثم التوسط في تفسير دليل المسألة الجزئية ومفهوم القاعدة العامة الحاكمة للباب الشامل لها، بما يحقق اتساقا بينهما باعتبار الأصل، دون اللجوء للتفسير بالاستثناء من القاعدة بلا مسوغ كاف لذلك .

ثم التوسط في إلحاق المسألة الاجتهادية بأشباهها تحت القاعدة العامة الشاملة لها كلها في نفس الباب، وهذا تفريع اجتهادي على ما سبق من توسط يربط بين المسألة الجزئية وقاعدة بابها.

ثم التوسط في إلحاق المسألة الاجتهادية بأشباهها تحت القواعد العامة السارية في أكثر من باب فقهي، تفريعا على ما سبق من جهة، وتوسيعا في النظر الجامع للمنظومة الفقهية من جهة أخرى.

وذكرت أخيرا التوسط بين معاني أدلة الأحكام وبين مقاصد تلك الأحكام، من خلال التمييز بين الأصل الذي تحقق فيه معاني أدلة الأحكام مقاصدها، وبين الاستثناء الذي يحدث فيه التعارض بين ظاهر المعنى من جهو وبين مقصود الحكم من جهة أخرى. فيغلب الأول في الأحوال الأصلية، ويغلب الثاني في الأحوال الاستثنائية.

كما أؤكد أن كل تناقض يثير الاضطراب، وكل جمود يفضي إلى الحرج، ليس من الشريعة في الحقيقة. وإن أدخله من أدخله فيها، بنقص فهم أو ضعف اجتهاد، حتى لو كان معذورا في ذلك. وسيبقى العلم نورا يقذفه الله في صدور من يصطفيهم من عباده، ليرث العلماء الأنبياء، وليظهروا حجة الله بين العالمين. يرث المتأخرون في هذا المتقدمين، حتى يبقى الحق ظاهرا، من لدن سيد المرسلين – صلى الله عليه وسلم – وإلى آخر الزمان. والحمد لله رب العالمين.


التعليقات