تحريف القرآن بين التاريخية والسمطقة

“وتحويل النظام اللغوي إلى علامات سيموطيقية داخل نظام آخر عملية يطلق عليها اسم (السمطقة).. وعملية السمطقة تلك تنقل اللغة من مجال “المواضعة” إلى مجال”الاستدلال” العقلي أي تحولها إلى نسق من العلامات غير لغوى، إذ الأساس في العلامات اللغوية قيام دلالتها على العرف والمواضعة، وليس من الضروري أن يكون الأمر كذلك في العلامات السيموطيقية.. ودائمًا ما تلجأ لغة النص في سياق هذا التحويل إلى حفز المتلقي على “التعقل” و”التذكر” و”التفكر” و”التدبر” وفى هذا الحفز ما يؤكد عملية التحويل من النظام اللغوي إلى النظام السيموطيقي.. لكن مفهوم العلامة في القرآن الكريم يتجاوز حدود “الكون” و”التاريخ” إذ يشير الدال “آية” – وآيات – إلى كل ذلك بالإضافة إلى إشارته إلى “وحدات” النص القرآني من جهة، وإلى “الحدود والأحكام” الشرعية التي أتى بها النص من جهة أخرى”.

بهذه الكلمات يشرح الدكتور نصر أبو زيد مفهوم السمطقة في كتابه “النص والسلطة والحقيقة” والسمطقة ما هي إلا عملية لتحريف الدلالة طبقًا للخطوات التالية:

1-اللغة لها دلالة أصلية ولا سبيل لإنكارها، ولكن القرآن سيطر على اللغة واحتواها ونقلها من نظام المواضعة إلى نظام الاستدلال العقلي حين حولها إلى علامة ضمنية.

2-الدلالة الأصلية -المعنى الذي دلت عليها اللغة- هي تلك الدلالة الهزيلة الفقيرة التاريخية التي أنتجها الوعي الإسلامي منذ عشـرة قرون، أما العلامة فهي التي تظل لكل العصور.

3-من خلال التفكر في العلاقة يمكن إنتاج دلالة تناسب العصر، تلك الدلالة العصرية تمثل المغزى من النص، وهو المراد الوصول إليه من خلال فعل القراءة .

4-فعل القراءة لا يبدأ من المعنى ليصل إلى المغزى، بل يبدأ من المغزى؛ لأنه هو الذي يشير إلى الواقع ليكتشف المعنى الذي هو دلالة النص في الماضي، ولكنه يعود من خلال المعنى ليعيد تشكيل المغزى، وتلك الحركة بين المغزى والمعنى هي التي تحمي من تحول القراءة من قراءة غير بريئة إلى قراءة مغرضة.

وتناقض الإنسان مع نفسه وارد، فهو من جملة الخطأ الوارد على الإنسان. أما أن يقتنع إنسان ويحاول أن يقنع الناس أن هذا التناقض ما هو إلا تكامل، فهذا هو العدوان على العقل والفطرة. وهذا ما فعله العصرانيون من العلمانيين عندما أرادوا أن يجمعوا بين التاريخية والسمطقة، فالمفهوم الأول يربط القرآن ببيئة العرب بغية إسقاط أحكام الشرع، بحجة عدم تناسبها مع العصر الحديث.

أما المفهوم الثاني فيقطع كل رباط للقرآن مع بيئة العرب، حتى ولو كان هذا الرباط هو ما تواضع عليه العرب من لغة، لينفتح الباب أمام الاعتراف بأي تأويل، أو على الأقل احترامه، بحجة تطور اللغة واختلاف العقول.

وهم يدعون التكامل بين هذين المفهومين: التاريخية تسقط الأحكام التي لا تتلاءم -بزعمهم- مع العصـر، والسمطقة تعطي الحرية لاستحداث أحكام تناسب العصر، وبهذا يظل القرآن حيًا حاضرًا بيننا.

فالتاريخية ألغت دلالته السابقة فقط لارتباطها بالزمان والمكان المتغير، أما السمطقة فتفتح الطريق إلى إنتاج دلالات جديدة للقرآن. والقرآن هو القرآن، وإنما المتغير هو مفهومه ودلالاته، أليس هذا هو عين التكامل؟!
والحق أن المفهومين يتكاملان بالفعل في تنفيذ المخطط، فتحريف أحكام الشرع دون أن تراق نقطة دم واحدة لا يكون إلا بهذا السبيل. فالمتكلم ليس من المستعمرين، بل من المنتسبين لهذا الدين. والقرآن لم تمس حروفه بسوء، بل هو كما أنزل، وما دل عليه من أحكام لم يعترض أحد على صحة دلالة القرآن عليها، وإنما الاعتراض على مناسبة هذه الدلالة لعصرنا، فالسبيل إذن هو إثبات تاريخيتها. ولتحقيق صلاحية القرآن لعصرنا فلابد من سلوك سبيل السمطقة، ذلك الاكتشاف الغربي الهائل الذي حل المعضلة. ولكن المعضلة التي لم تحل هي أن أساس كل من المفهومين باطل. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الأساسين متناقضان.

أما أساس التاريخية فباطل لأن القرآن لم يخاطب العرب وحدهم، وإنما خاطب الثقلين إلى قيام الساعة. والأحكام – مدلول ذلك الخطاب- كذلك موجهة إلى الجميع، ولا وجه لاختصاصها بزمان أو مكان، أو قبيلة وطائفة، أو مجتمع دون غيره.

وأما أساس السمطقة فباطل لأن القرآن نزل بلسان العرب، ويعتمد فهم القرآن وتعقله -كما أخبر الله- على إدراك ما تواضع العرب عليه، وما كان جاريًا على لسانهم من كلمات وأساليب. وأما وجه التناقض فإن الإيمان بالتاريخية يعني ضمنًا الإيمان بالمواضعة واختصاصها بالزمان والمكان، باعتبارها جزء من النظام الثقافي المحدد في ذلك الزمان والمكان، وهو ما ينفي السمطقة. والإيمان بالسمطقة كذلك يعني الانقطاع الكامل عن البيئة والزمان والمكان، مما ينفي التاريخية.

وحول تلك المفاهيم المغلوطة تبحث الأسئلة التالية عن إجابة:
1-أخاطبنا الله تعالى في كتابه بالدلالة الأصلية، أم بالدلالات التي ننتجها نحن؟ أيكون مقصود الله من كلامه المعنى، أم المغزى؟
2-لو كان مقصود الله يختلف من عصر لآخر، فلماذا أرسل النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- برسالة خاتمة؟ وهل كان يعجز الله أن يبعث لكل أمة رسولًا، كما بعث للأمم السابقة؟
3-هذا المغزى، من الذي يستنبطه؟ الخطاب الديني، أم اليسار الثوري، أم العلمانيون الإصلاحيون، أم المثقفون؟
4-ما المعيار الذي يقاس عليه صحة وخطأ المغزى المستنبط؟ ومن الذي من حقه أن يضع ذلك المعيار؟
5-ما موقف العوام من المغزى هل هم مخاطبون باستنباطه شرعًا؟ وإن لم يكن في استطاعتهم ذلك فمن يسألون؟
6-وإذا كان المعنى ثابت والمغزى متغير، أتكون البداية من المتغير؟
7-علمنا كيف يساهم الثابت في تعديل المتغير، ولكن ما دور المتغير في اكتشاف الثابت؟ لاسيما وأن اكتشاف الثابت لا يعتمد على المتغير من قريب أو بعيد، فالمعنى يتطلب معرفة لسان العرب، والمغزى يشير إلى الواقع الراهن، فما دور الواقع الراهن في فهم الواقع الماضي؟
8-إذا كان المغزى هو المجهول المطلوب معرفته، فكيف نبدأ به لنصل إليه؟ وهل القراءة المغرضة إلا إسقاط الأحكام المسبقة على النصوص؟
تلك هي الأسئلة الحائرة التي إن بحثت عن إجابات لها في كتب العصرانيين فلن تجد شيئًا. ومن عجائب العصرانين التي لا تنقضي: محاولتهم الاستدلال بالقرآن على تحويل اللغة من مجال المواضعة إلى مجال الاستدلال العقلي، وذلك بما ورد في القرآن من حفز المتلقي على “التعقل”، و”التذكر”، و”التفكر”، و”التدبر”.

ومن سبل الضلال عن الحق أن يؤخذ بعض الكتاب ويترك البعض الآخر، فإن الله تعالى يؤكد في كتابه على نزوله وفق اللسان العربي، قال تعالى “إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون“، وفي هذه الآية يقرن ربنا بين عربية اللسان وبين التعقل، أي أن نزول القرآن على حسب ما تواضع عليه العرب هو السبيل إلى التعقل والتدبر، فالمواضعة إذن هي سبيل الاستدلال العقلي، إن كان هذا الاستدلال العقلي وفق شرع الله، وبهدف الوصول إلى مراد الله، لا أن يكون الاستدلال العقلي في مواجهة المواضعة.

ولازم القول بأن الحث على التدبر والتعقل دليل نقل اللغة من المواضعة إلى الاستدلال العقلي أن الوقوف على ما تواضع عليه العرب يمنع من التدبر والتعقل، وهذا معلوم فساده بالضرورة. وما زال هذا الهراء الفكري يقدم للناس في ثوب العلم!!


التعليقات