خطابات الانكسار (٢)

مع استمرار لهيب الثورات المضادة، عادت خطابات (ما قبل الثورات) المبنية على أرضية الانكسار للواجهة من جديد، في شكل تساؤلات منطقية يرددها كثيرون ممن اصطلوا بنار الأحداث، فضلا عن بعض الساسة والدعاة وصولا إلى بعض ناشطي وسائل التواصل الاجتماعي، ويمكن تلخيص خطابهم في النقاط التالية:

  • نظام السيسي استتب له الأمر، فلم ندفع فاتورة معارضته في ظل عدم وجود مسارات واضحة لتغييره؟
  • الشعب راض بممارسات السيسي، فلم ندفع ثمنا غاليا من أجله؟
  • تكفي التضحيات التي قُدمت، ونريد الخروج من المعركة بأقل الخسائر الممكنة، ونريد إخراج المعتقلين بأي ثمن.

تلك النقاط السابقة تحتاج لنقاش موضوعي ، يستدعي أولا فهم عقلية النظام الانقلابي وتوجهاته فضلا عن أهمية قراءة المشهد قراءة صحيحة مما يساعد على حسن إجابة التساؤلات السابقة .

أولا : عقلية الخصم وتوجهاته:

يتعامل النظام الانقلابي بعقلية إقصائية لمعارضيه عموما وللإسلاميين خصوصا ،إذ يخوض صراعه معهم باعتباره صراعا صفريا وجوديا ،وفقا لنص تصريحات السيسي عدة مرات ( نحن في معركة وجود)، وذلك لدور الإسلاميين البارز في ثورة يناير وما تبعها من أحداث ،والذي مثل خطرا على قواعد اللعبة التي أرساها الغرب بالمنطقة منذ قرنين ،والتي تتمثل في وجود منظومات حكم تتسم ب٣ سمات وفقا للبريطاني روجر أوين ،وهى ( التبعية للغرب ، حكم القلة ، الحكم دون مسائلة) ، فسعى داعمو السيسي الخارجيين لتطبيق نظريات كلاوزفيتز الحربية مع الإسلاميين ،والتي تنص على أنه ( لو أريد إجبار العدو على الخضوع فلا بد من وضعه في موقف أسوأ حتى من التضحيات التي نطالبه بتقديمها، وألا تكون مصاعب الموقف الذي نضعه فيه عارضة أو مؤقتة ،أو ألا تبدو كذلك على الأقل ، وإلا فلن يستسلم العدو ، بل سينتظر لحين تحسن الظروف أو الموقف).

ثانيا : قراءة المشهد :

إن أي قرار في الواقع لا بد أن يؤسس على فهم جيد لمعطيات هذا الواقع،لذا سنحاول أن نحلل عناصر القوة والضعف بالنسبة للحركة الإسلامية في مصر داخليا وإقليميا وعالميا:

١-المستوى الداخلي:

عناصر قوتنا:
كل عناصر ضعف النظام الانقلابي، تمثل عناصر قوة لنا، بالتقابل الواقعي بيننا، ومن تلك العناصر: جمود الحياة السياسية ، والتدهور الاقتصادي الحاد،وسحق شرائح مجتمعية واسعة ، فضلا عن تفرق أغلب مكونات الانقلاب بمرور الوقت ، واستردادنا لجزء كبير من الحاضنة الشعبية التي فقدنها قبيل الانقلاب وخلاله، مع ظهور أشكال لرفض الانقلاب خارج السيطرة وغير قابلة للإحتواء وصلت في سيناء إلى حد تحويلها إلى ساحة حرب، ووصل لهيبها إلى العاصمة عدة مرات،مما أثبت كون الحركة الإسلامية عنصرا مؤثرا تأثيرا أساسيا في الاستقرار داخل مصر ، بحيث لا يمكن تجاوزها ولا استئصالها ،وهذا من أهم عناصر قوتنا التي تضغط على خصومنا ،فضلا عن المكتسبات البنائية داخل الحركة الإسلامية ومن أهمها : وضوح أن الصراع على هوية الأمة ، والاستعداد للتضحية بما يشمله من إحياء مفاهيم الشهادة والمخاطرة بالدنيا،وزيادة تمييز الصف الداخلي.

عناصر ضعفنا :
عدم قدرتنا حاليا على حسم الصراع ، وسعي الخصم لاستغلال ذلك، بأن يجعلنا نيأس من الحسم فنلجأ للحل من منطلق ضعف ، فنرضى بحل نكون فيه سبب استقرار وينخفض فيه سقف مكاسبنا لمستوى تقليل الظلم الواقع علينا لا رفعه بالكلية من خلال وهم أنه لا أمل في أكثر من ذلك ، فضلا عن تفرق الحالة الإسلامية بمكوناتها بما فيه الداخل الإخواني نفسه، و كثرة الإنهاك بالقتل والأسر ومصادرة الأموال ،وافشال التصعيد من جهتنا ضد النظام الانقلابي وذلك بالتحجيم والتأخير من قبل بعض القيادات.

٢- المستوى الإقليمي

عناصر قوتنا :
عدم نجاح فرض البديل العلماني في الواقع السوري والليبي، والذي يمثل الإسلاميون فيهما القوة الأساسية على الأرض، مما أكد استحالة إيجاد حل في المنطقة دون معادلة يكون الإسلاميون في مركزها، فضلا عن تزايد التهديد الإيراني لدول الخليج، مما يشغلهم عن مواجهة الإسلاميين نسبيا بمواجهة التحديات الأعجل والأخطر، بالإضافة إلى وجود مساحة من الدعم السياسي والإعلامي تقدمه تركيا وقطر لمناهضي الانقلاب.

عناصر ضعفنا :
التواطؤ الإقليمي على إزاحة الإسلاميين من على رأس المشهد السياسي.

٣-المستوى العالمي

عناصر قوتنا :
عدم تحمس أي من القوى العالمية للتدخل العسكري المباشر بقوات ضخمة بعد تجربتي أفغانستان والعراق ذاتا التكلفة الباهظة بشريا واقتصاديا ، فضلا عن تداعياتهما التي أدت إلى انتشار الحالة الجهادية لا تحجيمها ، وتصاعد تصدير الاضطرابات إلى الغرب سواء بمشكلة اللاجئين والمهاجرين التي تؤثر سلبيا على التركيب الديموغرافي له أو بانتقال شظايا المعارك إلى أرضه مما يدفعه للإسراع في طرح حلول لمشاكل المنطقة،بالتوازي مع خوفه من تفجر المنطقة بما يخرجها عن حدود السيطرة ، والإسلاميون هم القوة المجتمعية الأكبر بمعطيات الواقع الحالي ، بما يحتم إشراكهم وإعطاءهم مكتسبات في ظل أي حل يراد تحقيقه ولو مرحليا في مصر ، وفي منطقتنا عموما .

عناصر ضعفنا :
مركزية قضية اليهود في فلسطين في الحسابات العالمية ،مما يدفع القوى الكبرى لرفض وصول أي حركة إسلامية مصرية إلى سدة الحكم ،فضلا عن تزايد العداء للحركات الإسلامية عالميا .

مناقشة موضوعية لخطاب الانكسار:

وفقا للقراءة الإجمالية السابقة للمشهد ، لا يصح القول بأننا لا نملك عناصر قوة وكل أوراقنا ضعيفة ،وأن النظام الانقلابي ينفرد بامتلاك عناصر القوة، فلكل منا عناصر قوة وضعف،وواجبنا أن نحسن استثمار عناصر قوتنا وزيادتها،وأن نسعى لحصار عناصر ضعفنا لتقليل تأثيرها ، ومكاثرتها بما يضادها لإضعاف مفعولها لأقصى درجة ممكنة .

أما من يعيش في أسر أطروحة ( أن نظام السيسي سيبقى مدة طويلة لشدة قمعه وبطشه، ولاستناده إلى دعم خارجي قوي)، فلابد أن يعي أن القوة والبطش لا يكفيان بمفردهما في حكم الشعوب، فقد انهار النظام السوفيتي رغم شدة بطشه، وانهارت عشرات الأنظمة الديكتاتورية حول العالم دون أن تنفعها قبضتها الأمنية أو ينجدها الدعم الخارجي الذي تتلقاه، كما أن النظام العسكري الفتي الذي أرسى قواعده عبدالناصر قد شاخ في عهد مبارك فوقعت ثورة يناير، وهو يحكم حاليا بوجه مكشوف وقبيح في عهد السيسي مدافعا عن وجوده بعد أن كان الإسلاميون في العهد الناصري يدافعون عن وجودهم هم، ولم يقدم منذ الانقلاب حتى اليوم سوى قتل الآلاف من معارضيه، ومزيد من إفقار الفقراء وتحطيم الطبقة الوسطى وتبديد الموارد في مشاريع فاشلة، مما زاد من رقعة الناقمين عليه، وأثبت عدم امتلاكه مقومات تكفل له البقاء والاستمرار لمدة طويلة مثل من سبقوه.

أما توهم أن الحل سيتمثل في تقديم تنازلات ،ففي عالم السياسة لا يمكن جني مكاسب من تنازلات مجانية مسبقة تُقدم للخصم، فما بالنا بمن يسعى لتقديم تنازلات لخصم يخوض معركته معنا باعتبارها معركة صفرية ومعركة وجود بالنسبة له؟!

أما قضية التمسك بعودة مرسي للحكم ،فالصراع الآن واقعيا تجاوزها ، إذ صار صراعا لاستعادة البلاد من طغمة تدمر مقومات البلاد وتغير هويتها ، ولكن تظل قضية شرعية مرسي السياسية قضية تزعج النظام الانقلابي وتؤرقه، لذا نجد السيسي نفسه كل فترة يؤكد على أنه ( لم ينقلب على أحد ولم يخن أحد)، فلم يصر البعض على إعطاءه هدية مجانية ؟!! وبينما يمكن تفهم طرح فكرة التنازل عن عودة مرسي مقابل خروج المؤسسة العسكرية وعلى رأسها السيسي من المشهد السياسي، لا يمكن تفهم التنازل عن تلك النقطة مجانا لنقر بشرعية الانقلاب “عمليا”، فهذا من أسوأ الخيارات.

أما الكلام عن الممكن ،وتاريخ الأمم الغارق حتى أذنيه في حقوق ضائعة فات أوان استعادتها، فهو اجترار لخطابات الانكسار التي كانت تروج قبل الثورات في بلادنا، والتي إن تعايشت معها الشعوب الحرة لما تمكنت لاحقا من نيل حريتها، والتي لو صدرها الخميني لشعبه عقب فشل ثورته الأولى مطلع الستينات لما نجح في تدشين ثورته الثانية نهاية السبعينات.

أما الشعب السعيد بالسيسي، فهذا شعب متخيل غير موجود، فهناك انقسام مجتمعي وجد منذ لحظة الانقلاب، وشريحة المتضررين من نظام السيسي تزيد ولا تنقص ، وخوف الكثيرين من القمع الأمني لا يعني رضاهم بما يحدث، وبالتالي خطاب ( سيبوهم واخلعوا أيديكم منهم) يشبه تماما الخطاب المروج لليأس الذي كان يطرح في نهاية عهد مبارك ، والذي قضت عليه الثورة ثم أعادت الثورات المضادة إحيائه، فضلا عن أن المؤمن يعمل لإعلاء كلمة الله في الأرض حتى لو تخلى عنه البعض ، فمن سمات أعيان الطائفة المنصورة أنهم (يقاتلون على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله).

أما الإفراج عن الأسرى فله طرق عديدة، ولا يصح اختزاله في صورة الاستسلام للخصم من خلال التلميح إلى خيار وحيد معلوم مقابله ، فحتى الفلسطينون بل وحزب الله اللبناني تمكنوا من إخراج الكثير من أسراهم من سجون الصهاينة رغم تباين موازين القوى، بل والواقع يشهد بخروج الكثير من الأسرى من سجون الانقلاب دون تسويات أو مقايضات، كما أن التاريخ يشهد بخروج المحبوسين من سجون ناصر بعد هلاكه، بل وحتى في عهد مبارك اضطر للإفراج عن المعتقلين من رافضي المبادرات ، ففي النهاية سيخرج السجناء جميعا شاء السيسي أو أبى.

أما القول بأن التغيير سيحتاج إصلاح لأجيال عديدة ولزمن مديد، فيمثل مقولة تريح النفس دون أن تغير المشهد، وتلطف الخاتمة بعد أن شوه الخطاب المتشائم ما سبقها، فمن يوصف الواقع ليواجه مشاكله ويسعى لحل أزماته في (عمر الجيل) سيكون مؤهلا لإحداث التغيير واستثماره، أما من يوصفه ليبرر تراجعه وتخليه عن أهدافه، فيصعب أن يكون محركا للواقع باتجاه التغيير يوما ما،وقد اقترب عمر الحركة الإسلامية في مصر من ١٠٠ سنة، وهى فترة كانت كافية لتجربة أنماط عديدة للتغيير، فهل يريد البعض إعادة اختراع العجلة من جديد؟! بينما التجارب موجودة بل ومتكررة والخبرات يفترض أنها صارت متراكمة.

وفي الختام لابد أن نعي أن الحركة الإسلامية في مصر تملك الكثير من الإمكانات كما وكيفا ،بشريا وماديا، بما يؤهلها لتغيير المنطقة لا مصر فقط ،ولكنها لم تستثمرها بعد كما يجب، نظرا لوجود سلبيات كشفت الأحداث عنها بجلاء سواء في ضعف كثير من القيادات أو تجمدها وتكلسها حول تصورات وآليات ثبت عدم جدواها في ظل الواقع المشتعل ، لذا فإن واجب المفكرين والمعنيين بشأن الواقع يتمثل في طرح تصورات وآليات للتغيير لا للاستسلام والرضى بالأمر الواقع، وهو ما يتطلب مناقشته في بحث منفصل.


التعليقات