أيها الباحثون عن الله: انظروا

منذ ما يقرب من ثلاث سنوات خرجت مع أسرتي الكبيرة في رحلة سفر برية طويلة، قطعنا فيها ذهابا وإيابا حوالي ثلاثة آلاف كيلو متر، وأثناء الرحلة رأينا أشياء كنا قد رأينا مثلها من قبل، لكن لم نرها هكذا مجتمعة أو متتابعة في آن واحد؛ فرأينا البحار والبحيرات والمضايق والخلجان، ورأينا الجبال والمرتفعات والسهول والوديان، رأينا الرمل والصخر والطين والزرع والجدب، رأينا تعاقب الليل والنهار والشمس والقمر، والعجيب أننا رأينا الحَرّ والقرّ، مررنا بلحظات لا يغني عنا مكيف السيارة من الحر شيئا، وأخرى لا تصلح فيه المدفئة لصرف البرد الذي يؤلمنا، ووصلنا إلى أن أمطرت السماء بغزارة حتى أجبرت كل السائرين على التوقف رغم أننا كنا في أشهر الصيف!!

تذكرت الآيات العشر الأخيرة من سورة آل عمران والتي كان يقرأها النبي صلى الله عليه وسلم عند استيقاظه من الليل، ويقول: “ويل لمن قرأها ثم لم يتدبر”، كما تذكرت نداءً مؤثرا للشيخ على القرني بعنوان “دعوة للتأمل”، قال في مقدمته: الكون كتاب مفتوح، يُقرأ بكل لغة، ويُدرَك بكل وسيلة، يطالعه ساكن الخيمة والكوخ، وساكن العمارة والقصر، كلٌّ يطالعه فيجد فيه زادًا من الحق إن أراد التطلع إلى الحق.

يقول الشاعر:
الشَّمْسُ وَالْبَدْرُ مِنْ آيَاتِ قُدْرَتِهِ – وَالْبَرُّ وَالْبَحْرُ فَيْضٌ مِنْ عَطَايَاهُ
الطَّيْرُ سَبَّحَهُ، وَالْوَحْشُ مَجَّدَهُ – وَالْمَوْجُ كَبَّرَهُ، وَالْحُوتُ نَاجَاهُ
وَالنَّمْلُ تَحْتَ الصُّخُورِ الصُّمِّ قَدَّسَهُ – وَالنَّحْلُ يَهْتِفُ حَمْدًا فِي خَلايَاهُ
وَالنَّاسُ يَعْصُونَهُ جَهْرًا؛ فَيَسْتُرُهُمْ – وَالْعَبْدُ يَنْسَى وَرَبِّي لَيْسَ يَنْسَاهُ

وفي تفسير ابن كثير: يقول تعالى “إن في خلق السماوات والأرض” أي: هذه في ارتفاعها واتساعها، وهذه في انخفاضها وكثافتها واتضاعها وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات، وثوابت وبحار، وجبال وقفار وأشجار ونبات وزروع وثمار، وحيوان ومعادن ومنافع، مختلفة الألوان والطعوم والروائح والخواص “واختلاف الليل والنهار” أي: تعاقبهما وتقارضهما الطول والقصر، فتارة يطول هذا ويقصر هذا، ثم يعتدلان، ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيرا، ويقصر الذي كان طويلا وكل ذلك تقدير العزيز الحكيم؛ ولهذا قال “لأولي الألباب” أي: العقول التامة الذكية التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها، وليسوا كالصم البكم الذين لا يعقلون الذين قال الله. اهـ

قضية النظر والتأمل والتفكر في الكون ليست فقط أمرا تكليفيا جاء به الشرع وأصّلته النصوص، إنه أمر فطري طبعي جبلي، وإذا كان المؤمن يردد بتلقائية مع كل حدث (سبحان الله) أو ما شابه ذلك مما يدل على تعظيم الله في نفس العبد، فإن الكافر بطبيعة الحال يتساءل: مَن وراء تلك الأحداث، ولماذا، وكيف، و… أسئلة لا تنتهي، وهذا ما يسمى ب”البحث عن الله” من خلال النظر في الحوادث، ولذلك يقول الشيخ الباقوري: البحث عن الله والتعرف إلى الخالق أمر شغلت به الإنسانية منذ كان لها وجود في هذا العالم، حتى لكأنما يدفعها إليه شعور خفي دافق، ويسوقها نحوه سائق عنيف من فطرة كامنة فيها. اهـ

ويزيد الدكتور محفوظ عزام فيقول: وتعد الفطرة من أهم الأدلة على وجود الله تعالى، فالكون بما فيه مفطور على الاعتراف بوجود الخالق إلا من غلبت عليه الشقاوة والغباوة. اهـ
وهي كذلك تجمع بين التعبد والتلذذ.

فالمؤمن ينظر في الكون ليزداد إيمانا ويقينا كما في قوله تعالى “وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ”، والجاحد ينظر باحثا عمّا يدعوه للإيمان بالله، وهو يبحث عن وجود الله كما يبحث عن وحدانية الله، وهم الذين عناهم الله بقوله “أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ”

وبقوله “أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ”

يقول الشيخ الزنداني في كتابه توحيد الخالق: الأدلة على وجود الله لا تحصى، وعددها كعدد مخلوقات الله، فكل مخلوق يحمل أدلة تدلنا على خالقنا وتعرفنا بموجده العليم الحكيم. اهـ
وصدق القائل: وفي كل شيء له آية … تدل على أنه الواجد.

وقد ذكرت في تدوينة (أيها الباحثون عن الله: هلموا) كلمة الأعرابي الشهيرة: البعرة تدلّ على البعير، والأثر يدلّ على المسير، فسماءٌ ذات أبراج وأرضٌ ذات فجاج، ألا تدل على العليم الخبير.

والخلاصة: أننا جميعا مأمورون بالنظر والتفكر في هذا الكون وسنرى قدرة الله عز وجل في المخلوقات العظيمة كما سنراها في المخلوقات الصغيرة الدقيقة، يقول القرني: يأخذك كتاب الله إن تأمَّلته في جولات وجولات، ترتاد آفاق السماء، وتجول في جنبات الأرض والأحياء، يقف بك عند زهرات الحقول، ويصعد بك إلى مدارات الكواكب والنجوم، يفتح بصرك وبصيرتك إلى غاية إحكام وإتقان لا له مثيل، قد وضع كل شيء في موضع مناسب، وخُلِق بمقدار مناسب، يُرِيك عظمة الله، وقدرة الله، وتقديره في المخلوقات، ثم يكشف لك أسرار الخلق والتكوين، ويهديك إلى الحكمة من الخلق والتصوير، ثم يقرع الفؤاد بقوله “أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ تَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ” إن نظرت إليه بعين البصيرة طالعك بوحدانية الله في الربوبية مستدلا بها على وحدانيته في العبادة والألوهية، ذلَّت لعزة وجهه الثَّقلان، وفي نهاية الآيات، يقرع القلوب، ويطرق الآذان، ويصكُّ المشاعر والأحاسيس بذلك التعقيب الإلهي العظيم، لعلهم يذكَّرون، لعلهم يتفكرون، لعلهم يتَّقون، لعلهم يرجعون، كل هذا، وهناك من هم عنه معرضون، أم تحسب أنَّ أكثرهم يسمعون. إنه حديث طويل، يطالعك في طوال السور وقصارها، لكنه مع ذلك شائق جميل، تسكن له النفس، ويتلذَّذ به السمع، وتتحرك له الأحاسيس والمشاعر، تستجيب له الفِطَر السليمة المستقيمة، ومع ذا ينبِّه الغافل، ويدمغ المجادل المكابر؛ إذ هو حق، والحق يسطع ويقطع. اهـ

وقد تعددت صيغ الآيات الآمرة بالنظر في الكون فتجد (انظروا، فلينظر الإنسان، انظر، أفلا ينظرون)
لله في الآفاق آيات لعل … أقلها هو ما إليه هداك
ولعل ما في النفس من آياته … عجب عجاب لو ترى عيناك
والكون مشحون بأسرار إذا … حاولْتَ تفسيرًا لها أعياك

وبعد هذا كله لا تسأل عن أناس قد استثناهم الله عز وجل من الانتفاع بهذه الدلائل، وهم الذين قال عنهم: “سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا” فقد أقيمت الحجة يقينا على هؤلاء المتكبرين، كما قال تعالى: “سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ”

 


التعليقات