قصة حديث تغيير المنكر

من أشهر الأحاديث الواردة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان” ورغم شهرة هذا الحديث وكثرة استعماله والاحتجاج به، إلا أن القصة التي ذكر فيها أبو سعيد الخدري لا تكاد تجد لها ذكرا رغم وجودها في صحيح مسلم -بل- إن كل كتب السنة التي روت الحديث بإسناده قد ذكرت هذه القصة.

فعن عن طارق بن شهاب عن أبي سعيد الخدري، قال: أَخرج مروانُ المنبرَ في يوم عيد، ولم يكن يُخرج به، وبدأ بالخطبة قبل الصلاة، ولم يكن يُبدأ بها، قال: فقام رجل فقال: يا مروان خالفتَ السنّةَ، أخرجت المنبر في يوم عيد، ولم يكُ يُخرج به في يوم عيد، وبدأتَ بالخطبة قبل الصلاة، ولم يكن يُبدأ بها، قال: فقال أبو سعيد الخدري: من هذا؟ قالوا: فلان بن فلان قال: فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ».

وموضع الشاهد من القصة هو كون راوي الحديث، وهو الصحابي الجليل أبو سعيد الخدري قد ذكره مادحا إنكار 1- رجل من عامة الناس، على 2- الخليفة مروان بن الحكم، 3- على الملأ، في 4- أمور خالف فيها الخليفةُ سنّةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهو خلاف ما يتم استعمال الحديث فيه حاليا، حيث تعطل استعماله في الإنكار على السلطة، وتم توظيفه لتأجيج الصراعات المجتمعية تارة، ولإحداث فجوات بين الحركة الإسلامية والشعوب المسلمة تارة أخرى.

وإذا كنا لا نخالف ولا نجادل في أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.. فإننا نؤكد على أهمية تقديم السبب على غيره، بحيث يتم التركيز على منكرات السلطة أكثر من العامة، -وأقل ما ينبغي- هو التسوية بين السبب وغيره من العمومات؛ بحيث يتم العمل بالتوازي بين الإنكار على العامة حال منكراتهم، كما يتم الإنكار على السلطة كذلك شريطة أن نقدر الأمور قدرها، ولا نساوي بين المنكرات الفردية أو المجتمعية التي يقع فيها المسلمون دون تحليل للحرام، وبين منكرات سلطوية تحل الحرام وتشيع الفاحشة في الذين آمنوا، فيحدث التوازن في عملية الإنكار برمتها.

لكن العجيب والغريب والمريب أننا نجد بعض الدعاة ومن يقال عنهم علماء في زماننا، يركزون على أخطاء العامة والجماهير، وكذلك أخطاء الحركات الإسلامية الإصلاحية، لكنهم صُمٌّ بُكمٌ عُميٌ عن الجرائم التي يرتكبها المسيطرون على الحكم في بلداننا العربية والإسلامية!!

فشأن العلماء والدعاة والوعاظ أن يكونوا قريبين من الشعوب والجماهير المستضعفة، وأن يتلطفوا معهم ويرفقوا بهم، وأن توجه سهامهم وسياطهم جهة السلطات المتجبرة التي تبذل وسعها لنشر الفواحش والمنكرات في المجتمع، لكننا نجدهم على العكس من ذلك!!

ومما يدل بوضوح على هذا المعنى الذي أقصده، ذلك الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: «مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي، إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ، وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ، فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ، فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ، فَهُوَ مُؤْمِنٌ، لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ»، وفي رواية ابن حبان والبزّار بسند صحيح «سَيَكُونُ أُمَرَاءُ مِنْ بَعْدِي يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ……» الحديث.

فهذا الحديث يدل دلالة ظاهرة على مدح مجاهدة أمراء الجور والظلم باليد واللسان و(القلب للعاجز) وجعله أدنى مراتب الإيمان، حتى وإن ترتب على ذلك لحوق الأذى بمن يؤدي هذا الواجب العظيم، فقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم ب “أفضل الجهاد”، وجعل المقتول فيه سيدا للشهداء مع حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، وعلى ذلك درج السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، حتى قال ابن داود أبو بكر الحنبلي رحمه الله: (والمقصود أنه كان من عادة السلف الإنكار على الأمراء والسلاطين والصدع بالحق وقلة المبالاة بسطوتهم إيثاراً لإعزاز الشرع على حفظ مُهَجِهِم واستسلاماً للشهادة إن حصلت لهم).

من هنا يظهر لنا حجم الخطأ الذي وقعت فيه الحركة الإسلامية في مصر في الثمانينات وما بعدها، من الصدام مع المجتمع بسبب وقوع بعض المعاصي والمنكرات أثناء الأفراح والمناسبات الاجتماعية الأخرى، وعمليات الهجوم على المقاهي ومحلات الفيديو وغيرها، ونفس الأمر حصل بصورة أشد مع الحركة الإسلامية في الجزائر في التسعينات، بعدما كانوا على رأس السلطة وحصل الانقلاب العسكري عليهم، فقد تم تحويل دفة الصراع بينهم وبين لصوص السلطة ليصبح بينهم وبين الشعب الجزائري، فيما وصَّفه أبو مصعب السوري على أنه اختراق مخابراتي للحركة الإسلامية مما أثرى عوامل الفشل، حيث اتسعت الهوة بين الإسلاميين وبين عموم الشعب الجزائري الذي اختارهم في الانتخابات وقتها!! وقد تقرر أن أي حركة جهادية تحتاج لظهير شعبي تستمر الحركة باستمرار دعمه.

ونرى الآن بوادر نفس هذا الخطأ مع الإسلاميين في مصر حاليا، حيث وقفت عموم الجماهير في مصر خلفهم في كل الاستحقاقات الانتخابية بعد ثورة يناير، وكانوا بالملايين في الشوارع والميادين أثناء اعتصامي رابعة والنهضة، ونزل الكثيرون مناصرة ومؤازرة يوم مجزرة الفض، ويوم مجزرة رمسيس الثانية وغيرها من الفعاليات التي ظهر فيها الدور الشعبي المؤيد للحركة الإسلامية، وعندما وصلنا لما نحن فيه الآن، بدلا من إلقاء اللوم على القيادات التي فشلت في إدارة المشهد قبل وبعد الانقلاب، نرى نبرة توجيه السهام لعموم الشعب المصري واتهامه بالجبن وخذلان أصحاب الحق في معركتهم العنيفة مع مؤسسات الدولة العميقة التي قادت الانقلاب عليها!! وقد ظهر ذلك بشدة بعد ضعف التفاعل يوم 11 / 11 الماضي الذي تم رفع سقف الطموحات فيه بشكل غير واقعي.

وحيث إنني لست بصدد التفصيل في أخطاء الماضي.. فإنني أركز على أننا لا يجوز أن نسمح بتحويل دفة الصراع، فليكن تركيزنا الأساس على السلطة المجرمة، التي تعتدي على الأرواح وتمنع الحريات وتنهب المقدرات وتعبث بالمقدسات، بدلا من الانشغال بالجماهير التي من شأنها -إذا تحركت- أن تكون قصيرة النفس بحثا منها عن انتصار عاجل.

وفي الوقت الذي نلوم ونعتب فيه على بعض المشايخ والدعاة بسبب تقصيرهم في الصدع بالحق في وجه هذه السلطات (أعني تحديدا الذين لم يتخذوا موقفا مناصرا لدولة العسكر)، فإننا في نفس الوقت لا ينبغي أن نعاديهم ونطعن فيهم حتى نجعلهم في زمرة الأعداء والخصوم، فهذا كله ليس من العدل ولا من فقه الأولويات في شيء.

وأؤكد في النهاية على أهمية إنكار المنكر أيا كان فاعله (حاكما أو محكوما) فجملة النصوص الشرعية تدل على أن كل خطأ يرتكبه أحد ركاب السفينة قد يؤدي لغرقها بكل من فيها، لكني قصدت إحداث حالة من التوازن حيث خطأ قائد السفينة أسرع وأقوى أثرا في إغراقها من أخطاء آحاد الركاب، وإذا كانت الأحاديث الواردة أعلاه في شأن حكام الأصل فيهم الإسلام وإقامة الشريعة وجهاد أعداء الأمة، فإن الأمر ينبغي أن يكون مع حكام اليوم أشد وأقوى، حيث إن حربهم على الإسلام وأهله صريحة واضحة لكل ذي عينين.

والله من وراء القصد


التعليقات