الرأي العام وأثره في السياسة الشرعية

تعريف الرأي العام: هو تصوُّر معلَن، إزاء مسألة أو مشكلة هامة وعامة، يترتب عليه موقف عملي إزاء المسألة موضوع الرأي. فهو تصوُّر عام فارَقَ الشخصية أو الفردية وانتقل ليصبح مسألة عامة تعم غالبية قِطاعات المجتمع المعني بذلك الرأي، وهو تصور معلَن فارَقَ الصدور والحنايا ليكون أمراً معلَناً يُجهَر به – سواء عن طريق القول أو العمل الذي يمثله العُرْف أو العادة – ليحقق الهدف منه، وهو تصوُّر له واقع عملي فارَقَ التنظيرَ المجردَ إلى مرحلة اتخاذ المواقف المؤسَّسَة عليه، والأصل أن يكون الرأي العام محدوداً بالزمان والمكان الخاصين به؛ وذلك أنه نشأ تفاعلاً مع وضع أو مشكلة حدثت في زمان ما ومكان مَّا، لكنَّ هذا لا يمنع أن يكون هناك رأي عام ممتد غير محصور الزمان والمكان، وذلك في ما يُعَد تعبيراً منطلقاً من الثوابت في مجتمع ما، أو موضوعاً يهم المجتمع كلَّه بجميع طوائفه وفئاته؛ فعلى ذلك يكون الرأي العام بمثابة المزاج الشعبي العام أو الإرادة الشعبية العامة، والركن الفارق في عدِّ الرأي رأياً عاماً أن يكون قادراً على ممارسة التأثير على قضية أو موضوع معيَّن، ويشبه أن يكون الرأي العام في السياسة والاجتماع نظير الإجماع أو قول الجمهور أو العرف في مسائل الفقه

تعريف الرأي العام: هو تصوُّر معلَن، إزاء مسألة أو مشكلة هامة وعامة، يترتب عليه موقف عملي إزاء المسألة موضوع الرأي. فهو تصوُّر عام فارَقَ الشخصية أو الفردية وانتقل ليصبح مسألة عامة تعم غالبية قِطاعات المجتمع المعني بذلك الرأي، وهو تصور معلَن فارَقَ الصدور والحنايا ليكون أمراً معلَناً يُجهَر به – سواء عن طريق القول أو العمل الذي يمثله العُرْف أو العادة – ليحقق الهدف منه، وهو تصوُّر له واقع عملي فارَقَ التنظيرَ المجردَ إلى مرحلة اتخاذ المواقف المؤسَّسَة عليه، والأصل أن يكون الرأي العام محدوداً بالزمان والمكان الخاصين به؛ وذلك أنه نشأ تفاعلاً مع وضع أو مشكلة حدثت في زمان ما ومكان مَّا، لكنَّ هذا لا يمنع أن يكون هناك رأي عام ممتد غير محصور الزمان والمكان، وذلك في ما يُعَد تعبيراً منطلقاً من الثوابت في مجتمع ما، أو موضوعاً يهم المجتمع كلَّه بجميع طوائفه وفئاته؛ فعلى ذلك يكون الرأي العام بمثابة المزاج الشعبي العام أو الإرادة الشعبية العامة، والركن الفارق في عدِّ الرأي رأياً عاماً أن يكون قادراً على ممارسة التأثير على قضية أو موضوع معيَّن، ويشبه أن يكون الرأي العام في السياسة والاجتماع نظير الإجماع أو قول الجمهور أو العرف في مسائل الفقه

تقسيم الرأي العام بحسب مكانته:

ومن الممكن تقسيم الرأي العام إلى أنواع ثلاثة:

1- رأي عام قائد: وهذا الرأي يقوم به قادة الأمة والنابهون منها وهم النخبة، وهؤلاء أقلية لكنهم يقودون المجموع ومثل هؤلاء تخشاهم السلطات الحاكمة وتحدِّد خطواتها بناء على رد الفعل المتوقع من هؤلاء، والذي يمكن أن يجرَّ وراءه القومَ. روى الخطيب البغدادي بسنده وكذلك الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يحيى بن أكثم قال: «قال لنا المأمون: لولا مكان يزيد بن هارون لأظهرتُ القرآن مخلوق، فقال بعض جلسائه: يا أمير المؤمنين! ومن يزيد حتى يكونَ يُتَّقى؟ قال فقال: ويحك! إني لا أتقيه لأن له سلطاناً أو سلطنة، ولكن أخاف إن أظهرته فيرد عليَّ فيختلفَ الناس وتكونَ فتنة وأنا أكره الفتنة»، ولا تكون هناك فتنة إلا إذا كان هناك من يتابعه على رأيه، ورأيه في مثل هذه الحالة لا يُعَد رأيَ فرد واحد بل رأي عامة توزن بعدد المتابعين الذين يصمِّمون على متابعة ما يقول؛ فالمأمون وهو أمير المؤمنين يخاف من مخالفة فرد لا حول له ولا قوة، لكنه قادر على تكوين رأي عام يجيِّش الناس ضده، وهو ما قد يهدد مركز الخليفة.

وقد ظهر أثر الرأي العام القائد واضحاً في ما يقرره علماء السياسة الشرعية في العدد الذي يعقد الولاية لرأس النظام؛ فقد اشترط العلماء أن يكون العقد من قِبَل أهل الحل والعقد أو جمهورهم، ولا يصلح أن يعقدها فرد أو فردان إلا إذا كانت موافَقتُه تقتضي موافقة كثيرين ممن يتحقق بهم مقصود الإمامة. قال إمام الحرمين الجويني في بيان العدد الذي تنعقد به الخلافة بعدما ذكر الأقوال في ذلك: « فالوجه عندي في ذلك أن يعتبر في البيعة حصول مبلغ من الأتباع والأنصار والأشياع، تحصل بهم شوكة ظاهرة، ومَنَعَة قاهرة؛ بحيث لو فرض ثوران خلاف، لما غلب على الظن أن يصطلم أتباع الإمام… ثم أقول: إن بايع رجل واحد مرموق، كثير الأتباع والأشياع، مطاع في قومه، وكانت مَنَعَته تفيد ما أشرنا إليه، انعقدت الإمامة»[1]، وقد قال بنحو ذلك ابن تيمية في منهاج أهل السنة النبوية حيث يقول: «… والملك لا يصير ملكاً بموافقة واحد ولا اثنين ولا أربعة؛ إلا أن تكون موافقة هؤلاء تقتضي موافقة غيرهم؛ بحيث يصير ملكاً بذلك».

2- رأي عام تابع: ويمثله الفئة الفاهمة المثقفة، التي يمكنها إدراك الأمور من خلال دلائلها، وهي شريحة أوسع من سابقتها، والفرق بين هذه الشريحة والتي تليها أنها تذهب إلى ما تذهب عليه عن علم ومعرفة واستدلالات لا عن تقليد.

3-  رأي عام مقلِّد: ويمثله الأغلبية العظمى من الناس؛ حيث تكتفي بترديد ما يلقى على مسامعها أو ما تشاهده من خلال أجهزة العرض المرئي، ويمثل هؤلاء العوام من الناس العمال والصناع والفلاحون وأصحاب الحرف والمهن، والتحكم والسيطرة على أهل هذه الفئة صعب ليس ميسوراً إذا كانوا مقلدين لمعظَّم عندهم حتى يضطر أهل السلطة إلى مجاراتهم ومداراتهم، لكن هذه الشريحة يسهل خداعها وتزييف وعيها.

الخصائص: الرأي يكون عاماً عندما يتعلق بقضية عامة، ويتميز الرأي العام – إذا كان عفوياً غير مصنوع – عندما ينشأ استجابة لواقع معيَّن بأنه مستقل غير تابع نتيجة لخطوات تبلوره وظهوره على الساحة عبر كثير من النقاشات من قوى المجتمع المختلفة، ومن ثَمَّ فإنه يتمتع بنوع من الثبات؛ بحيث لا يسهل تغييره، لكن هذه الاستقلالية تحتاج إلى بيئة صالحة لذلك؛ كأن تكون كل المسالك التي تُستخدَم في التعبير متاحة للجميع، وكذلك القدرة على التواصل مع الجماهير عبر النوافذ المفتوحة، لكن هذا لا يمنع من إمكانية صناعة الرأي العام وتزييفه؛ بحيث يكون رأياً عاماً صناعياً موجَّهاً لا يعبر عن حقيقة البيئة التي أنتجته؛ وذلك من خلال امتلاك بيئة تكوين الرأي العام والقدرة على التأثير فيها من خلال نشر أكاذيب وإذاعة بيانات وإحصاءات غير صحيحة واختلاق بعض المشكلات، والرأي العام بحاجة إلى قادة؛ وهم الذين يتمتعون بالقدرة التأثيرية على قناعات الشعب لدرجة قد تصل إلى تغيير الرؤى والتصورات الشعبية؛ بحيث تتحكم فيها أو تعدِّلها ويلعب الإعلام الموجَّه دوراً كبيراً بلا شك في تشكيل الرأي العام.

المجالات: الرأي العام قد يكون بالنسبة لمؤسسة أو منشأة أو طائفة أو فئة، وقد يكون بالنسبة للمجتمع كله. والرأي العام في كل وحدة مما ذكـرتُ يبدأ نخبـوياً لكنه لا يقف عند ذلك؛ بل ما يلبث أن يمتد وينساح حتى يشمل كلَّ (أو أغلبية) مكونات الوحدات المذكورة، كما أن الرأي العام لا يشترط أن يعم وحدته فيكون رأياً أحادياً؛ بل من الجائز أن ينقسم إلى رأيين أو ثلاثة؛ بحيث يعبر كل واحد منها عن رأي عام.

المؤثرات: والرأي العام يتأثر بدرجة كبيرة بجودة وسائل الاتصال وتشعُّبها ومن ثَمَّ فإن التمكن من وسائل الاتصالات شرط مهم لصناعة الرأي العام، كما أنه يتأثر بالفئة المجتمعية التي تنتج هذا الرأي من حيث مستوى علمها وثقافتها ورشدها؛ فالرأي العام يُعَد في غالبه ابنَ بيئته؛ فالرأي العام الذي يسود هو ما كان متآلفاً أو متجانساً مع النسق الفكري العام للوحدة الاجتماعية المعنية بهذا الرأي، وهذا ما قد يفسر موقف الأمم من دعوات الرسل الذين أرسلهم الله – تعالى – لأقوامهم كي يخرجوهم من الظلمات إلى النور، وقد سجل القرآن الكريم مواقفهم فقال الله – تعالى -: {وَانطَلَقَ الْـمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} [ص: 6]، والملأ سادة المجتمعات، وهم الأقدر على تكوين الرأي العام وحشد البقية خلفه.

صناعة الرأي العام: والرأي العام كما يمكن أن ينشأ في أول أمره عفوياً نتيجة لواقع ما أو مشكلة ضاغطة، فإنه من الممكن أن يُصنَع صناعة لكنه لا يكون في هذه الحالة حقيقياً بل مرتبطاً ومتقيداً ومعبِّراً عن توجهات صُنَّاعه، والرأي العام قد يُصنَع عبر آليات كثيرة؛ فمن ذلك وسائل الإعلام المتنوعة (المقروءة والمسموعة والمرئية) وهذه الأخيرة قد تحتل أو تستحوذ على النصيب الأوفى من التأثير ويدخل في ذلك شبكة المعلومات (الإنترنت) عن طريق المنتديات الحوارية ومواقع التواصل الاجتماعي، ومن خلال الأحزاب السياسية وجماعات الضغط وجماعات المصالح، ومن ذلك الندوات والاجتماعات الشعبية التي تلقى فيها الخطب والمحاضرات، وكل اجتماع عام متكرر كخطبة الجمعة، ولعل هذا يفسر ما تقوم به بعض الأنظمة من السيطرة على خطبة الجمعة حتى لا تخرج عن طوعها؛ ففي خطبة الجمعة يرتبط العقل بالوجدان ويصير الرأي العام مرتبطاً بجناحين: جناح العقل الذي يؤكد على المعلومات المتعلقة بالقضية، وجناح القلب الذي يمد القضايا بالوقود النفسي الوجداني اللازم لاستمرار القضية بحيث لا تنطفأ جذوتها، وهناك من الأنظمة من يعمد إلى صنع رأي عام كي يتقبل القوانين أو القرارات أو السياسات التي تُزمِع السلطة الحاكمة على تبنِّيها وإقرارها، وهذا الرأي تعتمد مصداقيته على مصداقية السلطة التي أنتجته، كما أن هناك من يعمد إلى تضليله عن طريق التخدير أو الإلهاء بصرف الأنظار عن القضايا الحيوية وتوجيهها لقضايا هامشية.

أثر الرأي العام: والرأي العام له قدرة تأثيرية كبيرة في الأنظمة التي تقدِّر شعوبَها وتعتدُّ بها؛ فقد يغير أو يعدل بعض القرارات أو القوانين أو السياسات، كما يمكنه أن يتجاوز ذلك لإحداث قوانين أو قرارات جديدة بل وسياسات، لكن أثر الرأي العام في الشأن السياسي – سواء السياسة الداخلية أو الخارجية – يعتمد على مدى اعتداد النظام السياسي بحرية الشعوب وكرامتها وحقهم في أن يكون لهم دور مؤثر وفعال في كل ما يمر بمجتمعاتهم، وفي حالة إهمال النظام السياسي وتجاهله لمكانة الشعوب ودورها يتحول الرأي العام إلى موقف عدائي كامن تجاه النظام ويظل مكبوتاً ينتظر اللحظة المناسبة التي يجد فيها متنفساً حتى يخرج إلى العلن وقد يكون خروجه في بعض الأحيان كخروج البخار المحتبِس في قِدْر يغلي؛ ولعل ذلك يفسر ما حدث في الثورات التي نشأت في العديد من الدول العربية عام 2011م، فعندما شعرت الشعوب بقدرتها على التعبير عن نفسها وجاءتها الفرصة لم تتوانَ أو تتقاعس عن اقتناصها، وربما كان هذا الانفجار يشبه ألا يكون إرادياً، ففي بعض الأحايين حين تصل قدرة احتمال تلك الشعوب الحدودَ القصوى التي لم تُعَد بعدها قادرة على الاحتمال ولم يبقَ أمامها غير الانفجار، كما يمكن للرأي العام أن يمد النظام السياسي بقوة تعينه على عدم الاستسلام والصمود أمام الضغوط الخارجية؛ حيث يبين للقوة الضاغطة أن الرأي العام على الضد من مطالبهم وأن الاستجابة لما يطلب منه سيثير الرأي العام ومن ثَمَّ تعرُّض النظام السياسي لخطر محدق.

مراعاة الرأي العام: أنظمة الحكم الحكيمة تحرص على التعرف على الرأي العام وقياسه إزاء أي قانون أو قرار تريد اتخاذه حتى تعلم ردَّ الفعل المتوقع حياله، وذلك عن طريق الاستطلاعات أو الاستبانات والتحقيقات، وربما أحياناً من تسريب بعض المعلومات ونشر الشائعات بغرض معرفة ردِّ فعل الشعوب.

ومن خلال الموازنة بين أهمية القانون أو القرار وردِّ فعل الرأي العام المتوقَع من خلال المعلومات المتوفرة، يمكن للسلطة تحديد الخطوة التي يجب عليها سلوكها ومقدار التغيير أو التعديل الذي يمكن أن تجريَه على القانون أو القرار المزمَع إصداره، بل قد يكون التصرف المناسب حسب المعطيات المتوفرة التأخير أو الإلغاء أو عمل خطوات قبل الإصدار لتهيئ البيئة لتأييد القانون أو القرار أو قبوله من غير اعتراض، ومن ثَمَّ فإن للرأي العام صلة وثيقة بالسياسة الشرعية التي تهدف إلى القيام على الأمور بما يصلحها وينفي عنها الفساد، والسائس بمقتضى السياسة الشرعية يراعي الرأي العام؛ حتى وإن كان الرأي العام ليس رشيداً أو تغيب عنه بعض المعطيات التي تؤثر فيه، والمقصود بالمراعاة هو تأخير التصرف لحين توفر أو توفير الظروف المناسبة وليس إلغاؤه.

نماذج من مراعاة الشريعة للرأي العام:

ولعل من ذلك ما ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم راعى ذلك في مسألة هدم الكعبة وإقامتها على قواعد إبراهيم – عليه السلام – فقال لعائشة – رضي الله تعالى عنها -: «يا عائشة! لولا قومك حديثو عهدهم بكفر، لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين: باب يدخل الناس وباب يخرجون»[2]، فالناس لحداثة عهدهم بالكفر ربما لا يقبلون نقض الكعبة وإعادة بنائها على قواعد إبراهيم – عليه السلام – ويرون في ذلك عدم تعظيم للكعبة لما استقر في نفوسهم من تعظيم أمر الكعبة، ورغم أن إعادة بنائها على قواعد إبراهيم هو الصواب إلا أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم راعى موقف الناس منه وهو الذي يُعَد ممثلاً للرأي العام، بل إن الرأي العام من الممكن اعتباره والاعتداد به ولو كان من الكفار إذا كان ذلك مما تتعلق به مصالح المسلمين فيجلب مصلحة أو يدرأُ مفسدة. ومن ذلك عدم قتل الرسول صلى الله عليه وسلم للمنافقين مع أن جرمهم أكبر من جرم الكفار المعلنين بكفرهم، فعندما أراد عمر – رضي الله تعالى عنه – قتل عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين وقال: يا رسول الله: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «دعه، لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه»[3]، والناس الذين يمكن أن يقولوا: إن محمداً صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه هم من الكفار، وأما المسلمون فلا يعترضون على ما يقوله أو يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن أقواله وأفعاله شرع يُتعبَّد به؛ ففي هذا الحديث اعتدَّ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بتفسير الكفار لفعله وهو ما يؤكد الاعتداد بالرأي العام الصادر من الكفار لو تعلق بذلك جلب مصلحة للمسلمين أو درء مفسدة عنهم، وقد وجه الشارع الحكيم المسلمين للاستفادة من الرأي العام في تغيير منكر والقضاء عليه من غير لجوء إلى عقوبة أو استخدام قوة؛ ففي حديث أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه -: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو جاره، فقال: «اذهب فاصبر» فأتاه مرتين أو ثلاثاً، فقال: «اذهب فاطرح متاعك في الطريق» فطرح متاعه في الطريق، فجعل الناس يسألونه فيخبرهم خبره، فجعل الناس يلعنونه: فعل الله به، وفعل، وفعل، فجاء إليه جاره فقال له: ارجع لا ترى مني شيئاً تكرهه)[4]، فهذا التدبير من رسول الله صلى الله عليه وسلم عمد فيه إلى صناعة رأي عام رشيد يضغط لتغيير الواقع السيئ، وكان الرسول في الأمور التي تهم قطاعاً عريضاً يرجع فيتحسس موقف الرأي العام من التصرف الذي يريده؛ ففي قصة سبي هوازن عندما وافق الصحابة على رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ما رآه من ردِّ السبي إليهم لم يقبل ذلك حتى يتبين أن الموافقة تمثل رأي المجموع وليس رأياً فردياً؛ فقد أخرج البخاري في صحيحه: «فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: «أما بعد، فإن إخوانكم هؤلاء قد جاؤونا تائبين، وإني قد رأيت أن أردَّ إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيب بذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل» فقال الناس: قد طيبنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفعوا إلينا عرفاؤكم أمركم فرجع الناس، فكلمهم عرفاؤهم، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه: أنهم قد طيبوا وأذنوا»[5]، وهذا من السياسة النبوية في تعرُّف مواقف الناس والاعتداد بما يرون في ما يحق لهم، وقد راعى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الرأي العام من الأنصار لما وجدوا في أنفسهم شيئاً عندما أعطى قريشاً والعرب من الغنائم ولم يعطهم شيئاً، فجمعهم واستمع لمقالتهم وردَّ عليهم وطيَّب أنفسهم ولم يهمل موقفهم ولم يقل: إني رسول الله ويجب عليهم التسليم بما حكمتُ ولو قاله لكان حقاً، لكنه صلى الله عليه وسلم آثر الطريق الأولى التي فيها مراعاة الرأي العام والتصرف المناسب حياله؛ فعن أبي سعيد الخدري قال: لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا في قريش وقبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء وَجَدَ هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى كثرت فيهم القالة حتى قال قائلهم: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة، فقال: يا رسول الله! إن هذا الحي قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار شيء. قال: «فأين أنت من ذلك يا سعد؟». قال: يا رسول الله! ما أنا إلا امرؤ من قومي، وما أنا؟ قال: «فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة». قال: فخرج سعد، فجمع الأنصار في تلك الحظيرة. قال: فجاء رجال من المهاجرين فتركهم، فدخلوا وجاء آخرون فردَّهم، فلما اجتمعوا أتاه سعد فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، قال: فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه، بالذي هو له أهل، ثم قال: «يا معشر الأنصار! ما قالة بلغتني عنكم وجِدَة وجدتموها في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله؟ وعالة فأغناكم الله؟ وأعداء فألَّف الله بين قلوبكم؟». قالوا: بل الله ورسوله أَمَنُّ وأفضل. قال: «ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟» قالوا: وبماذا نجيبك يا رسول الله، ولله ولرسوله المن والفضل؟ «أَمَا وَاللهِ! لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ، أَتَيْتَنَا مُكَذَّباً فَصَدَّقْنَاكَ، وَمَخْذُولاً فَنَصَرْنَاكَ وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك، أوجِدتُم في أنفسكم – يا معشر الأنصار – في لعاعة من الدنيا، تألَّفت بها قوماً ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟ أفلا ترضون – يا معشر الأنصار – أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعون برسول الله في رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده! لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً، وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار» قال: فبكى القوم، حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسماً وحظاً، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا»[6]. فاستمع الرسول صلى الله عليه وسلم لمقولتهم وأجاب عنها وأزال ما في نفوسهم وزاد على ذلك بأن طيب خاطرهم بأجمل العبارات. كما تمثلت مراعاة الرأي العام في غزوة بدر حينما قال لهم كما روى أنس «… أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان. قال: فتكلم أبو بكر، فأعرض عنه، ثم تكلم عمر، فأعرض عنه، فقام سعد بن عبادة، فقال: إيانا تريد يا رسول الله؟ والذي نفسي بيده! لو أمرتنا أن نُخيضَها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا»[7]، وفي لفظ في مصنف أبي شيبة: «فقام سعد بن عبادة فقال: يا نبي الله! لكأنك تُعرِّض بنا اليوم لتعلم ما في نفوسنا، والذي نفسي بيده! لو ضربت أكبادها حتى برك الغماد من ذي يمن لكنَّا معك»، وكذلك فعل في غزوة الأحزاب عندما أراد أن يصرف الأحزاب عن المدينة في مقابل ما يعطيه لهم من ثلث ثمار المدينة، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك قبل أن يتعرف إلى رأي السعدين سعد بن معاذ وسعد بن عبادة – رضي الله تعالى عنهما – وهما سيدا الأنصار ورأيهما يمثل الرأي العام للأنصار.

ومن مراعاة خلفائه – رضي الله تعالى عنهم – للرأي العام وتأسيس التصرفات بناء عليه: ما تكلم به أبو بكر – رضي الله تعالى عنه – في سقيفة بني ساعدة عندما اجتمع المهاجرون والأنصار لاختيار خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعندما أراد بعض الأنصار أن تكون الخلافة فيهم قال أبو بكر: «إن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، الذين هم أوسط العرب نسباً وداراً»، فأبو بكر لما أراد أن يبين للأنصار خطأ قولهم لجأ إلى الرأي العام المستفاد من قوله: «إن العرب لا تعرف هذا الأمر…إلخ»؛ فالرأي المستقر عند العرب أنها لا تعرف هذا الأمر إلا لقريش ولا تقبل به إلا أن يكون الخليفة منهم، وأبو بكر – رضي الله تعالى عنه – لم يكن حتى لحظة كلامه هذه قد بلغه حديث: «الأئمة من قريش» وإلا لو كان عنده لاحتج به بدلاً من أن يحتج بالرأي العام.

ومما يمكن حسبانه في هذا الجانب موقف عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – فقد راعى ما يمكن أن يُعَدَّ من قبيل الرأي العام؛ وهو ضعف الالتزام الديني عندما آل إليه أمر المسلمين. روى الخلاَّل بسنده أن عبد الملك ابن عمر بن عبد العزيز، قال لأبيه: «يا أبت! ما يمنعك أن تمضي لما تريده من العدل؟ فوالله ما كنت أبالي لو غلت بي وبك القدور في ذلك. قال: «يا بني! إني إنما أروض الناس رياضة الصعب، إني أريد أن أحيي الأمر من العدل، فأؤخر ذلك حتى أُخرِج معه طمعاً من طمع الدنيا، فينفروا من هذه، ويسكنوا لهذه»[8]، فتصرُّف عمر – رحمه الله – يُعدُّ مراعاة للرأي العام؛ فقد علم منهم ضعف الالتزام الذي يجعلهم قابلين لما يأمر به، وأدَّاه ذلك إلى إجراء جديد حتى يحقق ما يريد، وهو أن يقدِّم بين يدي الأمر الذي قد ينفرون منه طمعاً من طمع الدنيا يسكتهم به، وهذا في حقيقته ليس رأياً عامّاً وإنما هو سلوك عام نزل منزلة الرأي العام.

 

[1] غياث الأمم في التياث الظلم للجويني، ص 107.

[2] أخرجه البخاري، رقم 126 وبوَّب عليه بقوله: باب من ترك بعض الاختيار، مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه، فيقعوا في أشد منه.

[3] أخرجه البخاري، رقم 4905.

[4] أخرجه أبو داود في السنن وقال الألباني: حسن صحيح.

[5] صحيح البخاري، رقم 2307.

[6] أخرجه أحمد في المسند، رقم 11730.

[7] صحيح مسلم.

[8] الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للخلاَّل: 1/26.


التعليقات