كفار الأمس وكفار اليوم نقاش هادئ مع عصام تليمة (2)

بعد ما نشرت مقالي السابق، تواصل معي الشيخ عصام تليمة وأخبرني أنه لا ينزع وصف الكفر، ولا الأحكام الدنيوية المترتبة عليه في شأن من يتكلم عنهم من كفار هذا الزمان، واستدل بعناوين مقالاته التي سماهم فيها (كفار)؛ ورغم أن الأمر يحتاج منه مزيدا من التفصيل والبيان، إلا أنني أكتفي بتصريحه، لأكمل نقاشي معه في الأمر الآخر الذي خالف فيه الأدلة وأقوال أهل العلم بحصره الكفر في الجحود والتكذيب فقط، واشترط شروطا ما أنزل الله بها من سلطان، هي (1- بلوغ الحجة و2- فهمها و3- التيقن من صحتها).

إذن؛ فمحل النزاع البارز في كلام تليمة هو نفيه لاستحقاق العذاب إلا بعد فهم الحجة على وجه واضح وبيّن لا لبس فيه.

وهو ما سأركز عليه في مقالي هذا حتى لا يتهمنا بأننا نناقشه في غير محل النزاع.

فأقول وبالله التوفيق:

أولا: أنواع الكفر التي نفاها عصام تليمة:

  • كفر الإعراض

قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف 3]

وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [السجدة 22]

وقال تعالى: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا} [طه 99 : 101]

قال ابن القيم في طريق الهجرتين: (الأصل الثاني: أن العذاب يستحق بسببين؛ أحدهما [الإعراض عن الحجة وعدم إرادتها والعمل بها وبموجبها]. الثاني العناد لها بعد قيامها وترك إرادة موجبها. فالأول كفر إعراض، والثاني كفر عناد، وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكن من معرفتها فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل.

والأصل الثالث: أن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان وفي بقعة وناحية دون أخرى، كما أنها تقوم على شخص دون آخر، إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون، وإما لعدم فهمه كالذي لا يفهم الخطاب ولم يحضر ترجمان يترجم له، فهذا بمنزلة الأصم الذي لا يسمع شيئا ولا يتمكن من الفهم، وهو أحد الأربعة الذين يدلون على الله بالحجة يوم القيامة كما تقدم في حديث الأسود وأبي هريرة وغيرهما) اهـ

وقد آثرت أن أنقل هذه الفقرة كاملة من كلامه رحمه الله لأن كلامه في الأصل الثالث مبتورا عن الأصل الثاني قد يستشهد به تليمة، رغم أنه (حتى مبتورا) لا يتوافق مع ما قاله.

ولا أدري ما هو رأي تليمة فيمن قالوا قديما: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت 26]

قال السعدي في تفسيره: (يخبر تعالى عن إعراض الكفار عن القرآن، وتواصيهم بذلك، فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ} أي: أعرضوا عنه بأسماعكم، وإياكم أن تلتفتوا، أو تصغوا إليه ولا إلى من جاء به) اهـ

فكيف تقوم الحجة بالطريقة التي يدعيها تليمة على من هذا حاله؟ حتى إنهم كانوا يقنعون الوافدين إلى مكة بوضع القطن في آذانهم، حتى لا يسمعوا شيئا من الحق خشية التأثر به.

  • كفر التقليد والاتباع الأعمى للآباء والأجداد

قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة 170]

وقال سبحانه: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف 23]

وقال جل وعلا: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [المائدة 104]

والسؤال الآن للشيخ عصام تليمة: أين إقامة الحجة وفهمها على الوجه الذي بنيت عليه فكرتك في حق هؤلاء؟

فإن هؤلاء على قول تلّيمة لم يتبين لهم الهدى، فكيف يؤاخذهم الله بعد ذلك؟

قال ابن القيم في طريق الهجرتين: (فإنّ الكافر من جحد توحيدَ الله وكذَّب رسولَه، إما عنادا أو جهلا [وتقليدا لأهل العناد] فهذا وإن كان غايته أنه غير معاند فهو [متبع لأهل العناد] وقد أخبر الله في القرآن في غير موضع بعذاب المقلدين لأسلافهم من الكفار وأن الأتباع مع متبوعهم) اهـ

بل إن القرءان حدثنا عن حالهم في جهنم: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر 47 ، 48]

{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة 166 ، 167]

والعجب كل العجب، عندما ناقشه الإعلامي محمد ناصر في مسألة سهولة بحثهم عن الدين والإسلام، ظل يدندن حول عدم جدوى ذلك، واستشهد بقصة [أنتوني فلو] بأن البحث لن يهديهم للحق!!

ولا أدري، هل يريد تليمة أن يحمل المسلمين أوزار كل كفار الأرض؟، طالما أنهم لم يقوموا بواجب البلاغ الواضح البيّن لهؤلاء، وفي المقابل لا يُحَمّل الكفار وزر كفرهم وقعودهم عن طلب الحق والهداية!!

فكيف يكون تليمة بهذا الكلام داعية للإسلام؟!

——————————————

الخلاصة: هناك أحوال يُحكم فيها بالكفر مع تحمل كل توابعه في الدنيا والآخرة دون أن تتوفر فيها الشروط التي اشترطها الشيخ عصام تليمة، وأن هذه الأحوال تنطبق على كفار اليوم كما انطبقت على كفار الأمس لعدم وجود أي فارق بينهما، فكثير من كفار اليوم معرضون عن سماع الحجة، أو أتباعٌ جهالٌ لما وجدوا عليه آباءهم.

فالعذر بالجهل أصل ثابت عند أهل السنة، لكن الجهل الذي يكون العبد هو السبب فيه، وأنه يستحب العمى على الهدى برغبته وإرادته؛ فهذا مؤاخذ محاسب على كل ما يترتب على هذا الجهل، إن إثما فإثم، وإن كفرا فكفر.

وقد قال ابن القيم كلاما في حق الجهلة من أهل البدع المكفرة وغيرها، رأيت أن أذكره عسى أن يستفيد منه تليمة وكل من نحا نحوه، فقال رحمه الله في كتابه الطرق الحكمية: (فهؤلاء أقسام: أحدها: الجاهل المقلد الذي لا بصيرة له فهذا لا يكفر ولا يفسق ولا ترد شهادته [[إذا لم يكن قادرا على تعلم الهدى] وحكمه حكم المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا

القسم الثاني المتمكن من السؤال وطلب الهداية ومعرفة الحق ولكن يترك ذلك اشتغالا بدنياه ورياسته ولذته ومعاشه وغير ذلك [[فهذا مفرط مستحق للوعيد]]…….

القسم الثالث أن يسأل ويطلب ويتبين له الهدى ويتركه تقليدا وتعصبا أو بغضا أو معاداة لأصحابه فهذا أقل درجاته أن يكون فاسقا وتكفيره محل اجتهاد وتفصيل) اهـ بتصرف يسير.

ثانيا : أما بالنسبة لخطأه فيما عزاه لأهل العلم فأكتفي هنا بما عزاه لابن حزم في كتاب الفِصَل، حيث سقط سقطة شنيعة، فنقل عن ابن حزم قوله: (فنصّ تَعَالَى على أَن النذارة لَا تلْزم إِلَّا من بلغته، لَا من لم تبلغه، وَأَنه تَعَالَى لَا يُعذّبُ أحدا حَتَّى يَأْتِيهِ رَسُول من عِنْد الله عز وَجل فصح بذلك أَن من لم يبلغهُ الْإِسْلَام أصلا فَإِنَّهُ لَا عَذَاب عَلَيْهِ) اهـ

لكنه لو نظر في نفس الصفحة تحت هذا النقل بقليل، وفي الصفحة التي تليها لوجد ما ينقض المعنى الذي يستشهد بكلام ابن حزم عليه!! حيث قال ابن حزم بعدها: (وَأَن من بلغه ذكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ مَا كَانَ من أقاصي الأَرْض فَفرض عَلَيْهِ [[الْبَحْث عَنهُ]] فَإِذا بلغته عَنهُ نذارته فَفرض عَلَيْهِ التَّصْدِيق بِهِ واتِّبَاعُه وَطلب الدّين اللَّازِم لَهُ وَالْخُرُوج عَن وَطنه لذَلِك [[وَإِلَّا فقد اسْتحق الْكفْر وَالْخُلُود فِي النَّار وَالْعَذَاب بِنَصّ الْقُرْآن]]) اهـ

وللبعض أن يسمي هذا الصنيع تدليسا، لكني أظن أنه أصلا لم يقرأ كلام ابن حزم كاملا، فهو كما قال عن نفسه ليس متخصصا في هذه الأمور، وبالتالي فهو يطالع مثل هذه الكتب ولا يقرأها بشكل صحيح.

وقال ابن حزم أيضا في كتاب الإحكام: (ونسأل من جعل العقل مرتبا في حظر أو إباحة قبل ورود الشرع فنقول له: ما تقول في راهب في صومعة، مريد لله عز وجل بقلبه كله، موحد لله تعالى لا يدع خيرا إلا فعله ولا شرا إلا اجتنبه، إلا أنه كان في جزائر الشاشيين في أقصى الدنيا، لم يسمع قط ذكر محمد صلى الله عليه وسلم من جميع أهل ناحيته [[إلا متبعا بالكذب وبأقبح الصفات]]، ومات على ذلك وهو شاك في نبوته صلى الله عليه وسلم أو مكذب لها، أليس مصيره إلى النار خالدا، مخلدا أبدا بلا نهاية؟ فإن شك أحد في ذلك فهو كافر بإجماع الامة) اهـ

ثالثا : أما منهج الاستدلال الذي وضعه الشيخ عصام تلّيمة (هداه الله)، وهو يتكلم عن الأحاديث الواردة في شأن والدي النبي عليه الصلاة والسلام؛ فهو منهج كفيل بتحريف العقيدة وتبديل كثير من الأحكام الراسخة والثابتة على مدار أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان، ولعلي أتناوله بإذن الله في مقال لاحق.

والله من وراء القصد


التعليقات