النظام السياسي في الإسلام

تعتبر تجربة الخليفة عمر بن عبدالعزيز أول نموذج للإصلاح السياسي بعد عقود من التشويه الذي طال النظام السياسي في الإسلام والمتأمل في تلك المرحلة يرى أن عمر بن عبدالعزيز قد نجح سياسيا بعد توفيق الله له بسبب فهمه الصحيح للنظام السياسي للإسلام وفهمه للواقع الذي يعايشه وبالتالي فهمه للواجب في الأول والممكن في الثاني ولذا كان أول قرار اتخذه هو عزل نفسه من الملك وإرجاع الأمر للشعب الذي بايعه بعد ذلك عن قناعة فهذه الخطوة أعادت الروح للنظام الأصلي ( الشورى ) الذي تم الالتفاف عليه بالوراثة وهذا ينم عن علم بالسنة وتجرد لله ثم اتجه بعد ذلك للتدرج في الإصلاح بنفس طويل مراعاة للناس ونفوذ أمراء بني أمية ولا أجد أفضل من هذا الحوار بينه وبين ابنه عبد الملك لشرح سياسته تلك ( قَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَلا تُمْضِي كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ ، ثُمَّ وَاللَّهِ مَا أُبَالِي أَنْ تَغْلِيَ بِي وَبِكَ الْقُدُورُ ، فَقَالَ لَهُ : ” يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرُوضُ النَّاسَ رِيَاضَةَ الصَّعْبِ ، أُخْرِجُ الْبَابَ مِنَ السُّنَّةِ فأَضَعُ الْبَابَ مِنَ الطَّمَعِ ، فَإِنْ نَفَروَا لِلسُّنَّةِ سَكَنُوا لِلطَّمَعِ ، وَلوْ عُمِّرْتُ خَمْسِينَ سَنَةً لَظَنَنْتُ أَنِّي لا أَبْلُغُ فِيهِمْ كُلَّ الَّذِي أُرِيدُ ، فَإِنْ أَعِشْ أَبْلُغْ حَاجَتِي وَإِنْ مِتُّ فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِنِيَّتِي ” ) والملاحظ هنا أن عمر بن عبد العزيز لم يقبل بالوضع المتوارث بشأن نظام الحكم مع أن كثير من أهل العلم قد أجازه بل أصر على إعادة الأمر شورى كما كان في الخلافة الراشدة ولم يغتر بوجودة على رأس السلطة للإندفاع في تطبيق الشريعة بل تدرج بخطوات مدروسة تتماشى مع واقعه وهذا ما جعل نموذج عمر بن عبد العزيز علامة بارزة في التاريخ الإسلامي بالرغم من أن حكمه استمر سنتين ونصف فقط ومع أن الفساد السياسي والإداري قد عاد للدولة بعد وفاته إلا أن تجربته أعطت الأمة ( كتيب إرشادات ) في طريقة الإصلاح السياسي في كل مرحلة تندرس فيها معالم النظام السياسي في الإسلام ويتخبط في فهم واقعه .

الحقيقة أن باب السياسة الشرعية من الأبواب التي لم يعهدها التيار الجهادي وهذا سبب جموده أمام مسائل العصر وهو نفس الموقف الذي مرت به التيارات الأخرى في بداية المد الجهادي إبان الجهاد الأفغاني ضد السوفيت ففتاوى المجدد عبدالله عزام رحمه الله التي أحيت ثقافة الجهاد في الأمة كانت محل استغراب لدى كثير من قيادات العمل الإسلامي آنذاك بل إن الشيخ كان ينقل لبعض العلماء أقوال أئمة مذهبه في فرضية الجهاد والعالم يجهل أن هذا القول هو قول مذهبه ! ونفس الاستغراب يتكرر مع بعض الجماعات الجهادية التي تسعى لأن تكون جزء من مشروع سياسي إسلامي دون وجود ثقافة وإدراك للسياسة الشرعية اللازمة لذلك فلا يكفي فقط التأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لنتلمس أساليبة السياسية بل يجب جمع ذلك مع نصوص الكتاب والسنة لتتكون لدينا رؤية واضحة لحقيقة وركائز وروح هذا النظام السياسي وما الواجب والمحظور والمقبول فيه وقد وجدت في كتاب الله والكتب الستة أكثر من ٥٠٠ باب وفصل في السياسة وهذا يدحض دعاوى المستشرقين والمتغربين بافتقار الإسلام لنصوص تنظم الحياة السياسية ولست هنا بصدد عرض تلك المواد لأني سأنشرها إن يسر الله لاحقا في كتاب أسميته ( ديوان الوالي ) وإنما القصد من هذا المقال هو الذهاب مباشرة إلى لُب النظام السياسي في الإسلام للتعرف على مفاتيح العمل التي يمكن أن تكون أرضية لمشروع سياسي يؤثر ويتفاعل مع الواقع المعاصر .

تميز العهد النبوي السياسي في المدينة بترسيخ نظام الشورى لأن بساطة أوضاع الجزيرة آنذاك لم تتطلب من النبي صلى الله عليه وسلم سوى أن يستخلف أو يقر من يرضاه على المدن وأن يأخذ الزكاة ويقسم بين الناس الفيء وأن يرسل لرعاياه من يقضي بينهم ويعلمهم أمور دينهم فلما جاءت خلافة أبي بكر ظهرت أهمية طبقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين ومن خلال اجتماعهم في سقيفة بني ساعدة جاء ترشيح خليفة رسول الله ثم دخلت الدولة في مرحلة استثنائية “انتقالية” بسبب حروب الردة ولذا لم تتطور آليات الحكم حتى جاء عهد عمر وجاء الاستقرار فبدأت آليات الحكم تتطور شيئا فشيئا فظهر الديوان وأقر عمر حق الرعية في خلع من لا يرضونه من الولاة وأقر حقوقهم المالية فجعل خراج سواد العراق وقفا للدولة بعد موافقة عامة أهل الشورى وقدم قائمة مرشحين في نهاية عهده ثم جاء عهد عثمان عبر عملية شورى شملت رجال ونساء المدينة في أول اختيار مباشر لرئيس الدولة الإسلامية واستمرت حركة تطوير آليات نظم الحكم في عهد الملك العضوض واندثار الشورى حتى دونت كتب الأحكام السلطانية مثل كتاب الماوردي وغيره والتي جاء فيها مصطلحات وآليات ونظم حكم لم تكن موجودة من قبل بسبب تطور التجارب البشرية وأساليب سياسة الناس ومصالح الدولة ، ومن هنا يتضح أن المرحلة النبوية جاءت لترسيخ مبدأ الشورى كنظام سياسي ولذا لم نجد فيها الآليات التي ظهرت في مرحلة الخلفاء الراشدين فهي شبيهة بالمرحلة المكية التي ركزت على العقيدة فلما رسخت نزلت الشعائر في المرحلة المدنية، فالضابط في النظام السياسي في الإسلام هو أن الشورى أساسه أما الآليات فهي قابلة للتغيير والتطوير بما يخدم ويسهل عملية الشورى على الناس فنتيجة الشورى التي تتم باجتماع مجلس أهل الحل والعقد في غرفة واحدة هي نفس النتيجة باجتماعهم عبر دائرة اتصال ألكتروني حديثة ولو كانوا متباعدين لأن المعنى هو تبادل الرأي وتقليبه للوصول إلى قرار محدد في مسألة معينة وترشيح عمر بن الخطاب لقائمة مرشحين ثم قيام عبدالرحمن بن عوف بأخذ آراء أهل المدينة في اختيار الخليفة هي نفس النتيجة التي يقدمها ترشيح أهل الحل والعقد لقائمة مرشحين لينتخب الناس منهم رئيسا بالتصويت المباشر.

وللتوضيح أقول أن ما جرى في سقيفة بني ساعدة هو “ترشيح أولي” لأبي بكر من قبل أهل الحل والعقد إلا أنه لم يصبح خليفة إلا بعد مبايعة أهل المدينة في المسجد النبوي وكذا الحال في بيعة عمر التي أتت عبر”ترشيح أولي”من أبي بكر وهو رأس أهل الحل والعقد ثم أصبح خليفة بعد مبايعة العامة والخاصة بعد ذلك ونفس الأمر في ترشيح عمر للستة فعثمان كان مرشحا ضمن عدة أسماء مختارة من رأس أهل الحل والعقد عمر ثم بايعته الأمة بعد ذلك ولولا أن أبا بكر وعمر وعثمان بويعوا بيعة عامة بعد الترشيح الخاص لما صحت بيعتهم وهذا ما قرره شيخ الإسلام ابن تيميه  .

وهذا النظام هو المتبع أيضا في كثير من الدول في العالم فأي مرشح للرئاسة في الغرب يجب أولا أن يعرض أوراقه على لجنة الانتخابات وهي لجنة من كبار قضاة الدولة تقرر قبول ترشيح الشخص أو رفضه بناء على شروط الترشيح – في إيران تسمى هيئة تشخيص مصلحة النظام والتي مكن المرشد الأعلى من إزاحة الإصلاحيين – والقصد أن هذه “القنطرة” تمكن من ضبط مسار الانتخابات بحيث لا تنتج عنها شخصيات تعارض مبادئ الدولة وهذا الأمر منضبط في نظامنا الإسلامي عبر أهل الحل والعقد الذين يقومون بترشيح أهل الأمانة الموثوق بهم حتى تقوم الأمة بانتخاب من تشاء دون أن تتعرض لعملية اختراق خارجي عبر دعم المرشحين الموالين للخارج كما يحدث في الأنظمة الديمقراطية فحقيقة اهتمام الغرب بنشر الديمقراطية في العالم تنبع من كونها النظام المثالي لاختراق أي بلد عبر دعم بعض الأحزاب وتوجيه الإعلام معهم لإنجاحهم في الانتخابات حتى ينفذوا سياسات الغرب صاحب الفضل في إيصالهم وحماية شرعيتهم بعد ذلك والمطلوب لإعادة هذا النظام الآن هو إعطاء مجلس الحل والعقد حق القيام بالخطوة الأولى وهي ترشيح قائمة أسماء لمنصب الرئاسة ممن يتفق على عدالتهم وكفائتهم ثم تنظم انتخابات مباشرة تمكن الشعب من اختيار حاكمه وهذه وكما أنها الطريقة الأقرب للشرع ففيها أيضا قطع لدعايات شبح الدكتاتورية الذي يرتبط دائما في أذهان الناس بحاكم لم يشاركوا في اختياره كما أن هذه الطريقة تسد الباب أمام الغرب في تحريك العملية الانتخابية لصالحه أو حتى الطعن فيها لأن الجميع يشاهد الناس وهم واقفين طوابير لممارسة حقهم الانتخابي .

والذي أريد قوله هنا هو أن الدور الذي يجب أن تقوم به الحركات الجهادية والقوى المماثلة لها بوصفهم أركان الثورة هو نفس الدور الذي قامت به طبقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين كانوا قاعدة المشروع الإسلامي فأولئك الرهط الذين كانوا نواة الحكم الإسلامي في المدينة وبعد فتح جزيرة العرب وفارس والروم ومصر وإفريقيا مهمتهم لم تكن الانخراط في الحكم بل المحافظة عليه بحيث لا ينحرف عن خطه الإسلامي ولذا كانوا هم من يشرف على ترشيح الخليفة وهم من تتم مشورتهم في الأمور التي تمس وجود الدولة كحروب الردة وفتح فارس والروم وهم القوة التي تستطيع تقويم الحاكم وعزله إن انحرف دون أن تدخل الدولة في اقتتال داخلي فالمشكلة التي كانت وما زالت تعاني منها الأمة هي طريقة التعامل مع انحرافات الحاكم بدءا من عدم كفائته مرورا بظلمه وانتهاء بكفره فهذه الدوامة هي التي أنتجت الفقة المشوه الذي تأثر بأحداث التاريخ المأساوية فأنتج لنا فكرا شبه جامد لا يقدم آلية واقعية للتعامل مع الحاكم وإنما يجعل الناس تتوه معه حيث تاه أو تجعل الناس مع الحكام كالميت بين يدي مغسله فهذا الفقه الذي ظهر بعد فتنة ابن الأشعث دفع كثير من الفقهاء لتغليب منع الخروج على الحكام الظلمة ثم تطور بمن بعدهم لمنع ما دون الخروج كالإنكار والنصح والمسائلة مع أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا ينكرون وينصحون ويسائلون الخلفاء الراشدين في شؤون الحكم المتنوعة وحتى أقرب صورة المسألة أقول لو أن الشعب السوري مباشرة أو عبر ممثليه اختار رئيسا للبلاد ثم بعد سنين وبعد أن دانت له البلاد واستقرت له الأمور تغير فضيع البلد وكثر ظلمه أو كفر وخرج من الإسلام بموالاة إسرائيل مثلا فإن كانت الأولى فالناس لن تصبر حتى تثور مرة أخرى وإن كانت الثانية فأهل الدين لن يصبروا حتى يجاهدوه فنعود لنقطه الصفر خاصة إن استعان بالأنظمة الحليفة ضد معارضيه وشعبه كما هو السائد في المنطقة، أما في عهد الخلافة الراشدة فقد كانت هناك آلية مرنة وواقعية تتيح تقويم انحرافات الحاكم إن ظلم وعزله إن تعدى ظلمه أو كفر وذلك عبر وجود طبقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار كقوة مستقلة لها خصوصية وفضل ومرهوبة الجانب ومسموعة الكلمة لدى الحاكم والشعب على حد السواء فهذه الطبقة التي أتت بفعل الأحداث لا بفعل الحاكم كما في تعيينه للولاة لا يمكن له تجاوزهم او فرض رأيه عليهم فيما يخالف الخطوط الحمراء من الدين أو الصالح العام فهذه الطبقة كانت بحق صمام أمان للدولة ولم يتغير ذلك إلا بعد ذهاب عهد الخلافة وبداية عهد الملك العضوض الذي تفرد فيه الحاكم بالسلطة فأصبح الخروج عليه مهلكة من المهالك سواء كان سفاح ظالم أو زنديق كافر ! ولذا يجب أن يعود دور تلك الطبقة في ضبط مسار الدولة كي يأمن الناس غائلة انحراف الحكام ولكيلا يفتنوا بالأنظمة الغربية التي تتيح عزل الحكام ومحاسبتهم عند أدنى خطأ بينما هم يضطروا لخوض برك من الدماء لعزل حكامهم بجانب الدمار والأعراض المنتهكة وفي حالة الثورة السورية مثلا نجد أن الطبقة المشابهة لطبقة السابقين من المهاجرين والأنصار “عمليا” هم قادة الفصائل الإسلامية أصحاب المشروع الإسلامي الذي يرتكز على إقامة شرع الله بمفهومه الشامل فهؤلاء هم “القوة العقدية” التي يجب أن تحافظ على مسار الدولة لا أن تنخرط في مسؤولياتها الإدارية وهو نفس الدور الذي مارسه { السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار } الذين مدحهم الله في كتابه ومنع عمر بن الخطاب خروجهم من عاصمة الخلافة لأهمية دورهم، فدولة الخلافة لم تعتريها الفتن إلا بعد أن سمح عثمان بن عفان لكبار الصحابة بالخروج من المدينة والانسياح في بقية مناطق الدولة فهنا وجد أهل الفتن مناخ يتيح لهم زعزعة مركز الدولة بعد أن خلت العاصمة من قوة دينية متماسكة مستقلة مرهوبة الجانب تحسم أي نزاع بخصوص نزع شرعية الخليفة.

والحقيقة أن هذه الطبقة موجودة أيضا في كثير من البلدان المعاصرة فشعوب العالم وبعد مراحل من التجربة البشرية في أنظمة الحكم توصلوا لضرورة وجود “قوة عقدية” تحمي مبادئ الشعب التي ثار من أجلها على الملوك والطغاة وهذه القوة تسمى بعرف الثورات مجلس قيادة الثورة أو اللجان الثورية أو الحرس الثوري وما شابه فهذه القوة المستقلة عن أجهزة الدولة مهمتها مراقبة مسار الدولة ومدى ثباتها على مبادئ الثورة التي يعتبر الانحراف عنها سببا شرعيا لاعتقال وعزل ومحاكمة أعضاء السلطة وهو دور مقارب لما كان يفعله الجيش التركي في مراقبته لالتزام الرؤساء بعلمانية الدولة والتجارب البشرية تختلف أيضا في تطور هذه القوة بداخلها فبعضها نجح بعد عدة حروب وتجارب لتحويل هذه القوة العقدية لقوانين ثابتة يحترمها الشعب ويحرسها نظام الدولة بمؤسسات رقابية مستقلة ومنتخبة كما حدث لدى شعوب الغرب وبعضها تحولت هذه القوة بداخله لمستبد آخر كما حدث في كوبا أو لمستبد مأجور لقوى خارجية كما حدث في ثورة الجزائر أما الثورة الإيرانية فقد ركز الخميني القوة العقدية في يده عبر فكرة “ولاية الفقيه” التي مكنته من المحافظة على الخط الشيعي للدولة دون أن تتأثر بسياسات الرؤساء المنتخبين من الشعب .

ولهذه الاعتبارات يجب أن يهتم قادة المشروع الإسلامي بتشكيل مجلس قيادة للثورة بميثاق واضح ومحدد ليكون بمثابة القوة العقدية التي تحمي وجود النظام الإسلامي وتحسم مسائل الانحراف ونزع الشرعية عن الحاكم عبر أي آلية تتيح لها ذلك كالمحكمة العليا التي تسري أحكامها على الرئيس في الدول الحديثة فوجود مثل هذه المحكمة في الأنظمة القمعية لا قيمة له بسبب سطوة الحاكم أما وجودها في ظل حماية قوة شرعية مستقلة يعطيها الحق في النظر في تلك الدعاوى ويعطي مجلس قيادة الثورة الشرعية في تنفيذ الحكم فهذا الوضع سيمنح قادة المشروع الإسلامي وضع إشرافي “دائم” على توجيه دفة البلد دون التعرض لانتقادات الاستئثار بالسلطة وسيمنحهم مرونة في ترتيب وهضم العملية السياسية دون الوقوع في فخ السخط الشعبي جراء الفشل أو أي حصار اقتصادي يفرضه الغرب لاجهاض الحكم الإسلامي فوجود حكومة منتخبة من الشعب يجعله يتحمل خياره ويسحب الفرصة من الغرب في تأليب الناس على النظام الإسلامي ويجعله بعيدا عن أن يمس بمثل هذه التكتيكات التي يمارسها الغرب كثيرا مع الإسلاميين .

الثابت والمتغير في النظام السياسي للإسلام

رفض النبي صلى الله عليه وسلم إعطاء عامر بن الطفيل الخلافة من بعده مقابل النصرة وقبوله إسلام النجاشي بالرغم من عدم دعوته لقومه للإسلام وعدم الحكم به وشطبه لعبارة بسم الله الرحمن الرحيم ولعبارة محمد رسول الله من أجل تمرير اتفاقية الحديبية وقوله أنه لو دعي لحلف كحلف الفضول قبل الإسلام لنصرة المظلوم لقبل به وقوله لقريش .( أما والله لا يدعوني اليوم إلى خطة يعظمون فيها حرمة ولا يدعوني فيها إلى صلة إلا أجبتهم إليها ) هذه المواقف وغيرها كثير توضح أن هناك ركائز وخطوط حمراء ومساحات مرونة للنظام السياسي في الإسلام يجب فهمها لنعرف أين نقف ونتحرك سياسيا مهما اختلف الزمان والمكان فالإسلام الدين الوحيد الذي جعله الله صالح لكل زمان ومكان والإرتباك الذي يقع في أي مرحلة تجاه التطور الحضاري للبشرية يرجع للخلل في فهم الدين وليس في عجز الدين عن التعامل مع الواقع ومن أوائل من وضع يده على هذا الجرح هو الإمام ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين حيث قال ( هذا موضع مزلة أقدام ، ومضلة أفهام ، وهو مقام ضنك في معترك صعب ، فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود ، وضيعوا الحقوق ، وجرؤا أهل الفجور على الفساد ، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد ، وسدوا على أنفسهم طرقا صحيحة من الطرق التي يعرف بها المحق من المبطل ، وعطلوها مع علمهم وعلم الناس بها أنها أدلة حق ، ظنا منهم منافاتها لقواعد الشرع ، والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة حقيقة الشريعة والتطبيق بين الواقع وبينها ، فلما رأى ولاة الأمر ذلك وأن الناس لا يستقيم أمرهم إلا بشيء زائد على ما فهمه هؤلاء من الشريعة فأحدثوا لهم قوانين سياسية ينتظم بها مصالح العالم فتولد من تقصير أولئك في الشريعة وإحداث هؤلاء ما أحدثوه من أوضاع سياستهم شر طويل ، وفساد عريض ، وتفاقم الأمر ، وتعذر استدراكه ، وأفرط فيه طائفة أخرى فسوغت منه ما يناقض حكم الله ورسوله ، وكلا الطائفتين أتيت من قبل تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله فإن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض ، فإذا ظهرت أمارات الحق ، وقامت أدلة العقل ، وأسفر صبحه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه ورضاه وأمره ، والله تعالى لم يحصر طرق العدل وأدلته وأماراته في نوع واحد وأبطل غيره من الطرق التي هي أقوى منه وأدل وأظهر بل بين بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة الحق والعدل وقيام الناس بالقسط فأي طريق استخرج بها الحق ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها . والطرق أسباب ووسائل لا تراد لذواتها وإنما المراد غاياتها التي هي المقاصد ولكن نبه بما شرعه من الطرق على أسبابها وأمثالها ولن تجد طريقا من الطرق المثبتة للحق إلا وهي شرعة وسبيل للدلالة عليها ، وهل يظن بالشريعة الكاملة خلاف ذلك ؟ )

الحقيقة أن من يفهم الفقرة الذهبية السابقة لابن القيم سيدرك تلقائيا أبعاد العمل السياسي في الإسلام ويخرج من المغالطة الفكرية التي تقول بأن أي عمل سياسي يجب أن يكون له نموذج في السنة ! فالإسلام لم يأت بنظام محدد للحكم وإنما بمبادىء ثابتة لا تتغير مع تغير العصور فالأساس الذي لا يتغير هو قوله تعالى ( وأمرهم شورى بينهم ) أما كيف تتم هذه الشورى فهذا يتغير من عصر لآخر لأنه مرتبط بتطور ثقافة وطرق حياة البشر فكما أن الإسلام دين لا يتصادم مع الفطرة البشرية فهو أيضا لا يعارض نتائج التجربة البشرية سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو تعليمية بشرط ألا تخالف الشرع وهذا المعنى هو ما أكد عليه ابن عقيل في مناظرته المذكورة في كتاب الطرق الحكمية ( ابن عقيل : العمل بالسياسة هو الحزم ولا يخلو منه إمام وقال الآخر : لا سياسة إلا ما وافق الشرع فقال ابن عقيل : السياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي فإذا أردت بقولك : لا سياسة إلا ما وافق الشرع ، أي : لم يخالف ما نطق به الشرع ؛ فصحيح . وإن أردت ما نطق به الشرع ، فغلط ، وتغليط للصحابة ) فركائز النظام السياسي في الإسلام والتي أتت بها النصوص الشرعية تدور حول أن الشريعة هي المصدر الوحيد للتشريع وأن الأمة هي صاحبة السلطة وأن الإمام وكيل عنها وأن لها حق الرقابة عليه وأن الشورى هي العملية السياسية التي يتم من خلالها إخراج قرارات الدولة وفق ما سبق وهذه الآلية التي أتى بها الإسلام هي ما توصل إليه الغرب بعد تجارب سياسية طويلة عبر عهود حكم الكنيسة والإقطاعيين والملوك ثم ظهور الثورات والدول القومية الحديثة، فالقرار في الأنظمة الغربية يخرج وفق النظام الديمقراطي الذي ينظم العلاقة بين الدستور والبرلمان والحكومة إلا أن الفرق بين الشورى والديمقراطية هو أن الأولى يكون مصدر التشريع فيها الشريعة الإسلامية حصرا أما الديمقراطية فالشعب هو مصدر التشريع ولذا فالشورى والديمقراطية تتفق في بعض الآليات كالتصويت والرقابة وتختلف في مصدر التشريع في كل منها بمعنى أنه لو أخذنا الديمقراطية ونزعنا منها حق التشريع للبشر وأثبتناه للشريعة لأصبح نظام أشبه بالشورى ولا يضر أن يسميه البعض حينئذ ديمقراطية لأن العبرة بالجوهر كما قال عمر بن الخطاب عندما رضي بطلب نصارى تغلب بتغيير اسم الجزية إلى صدقة حتى لا يشعروا بالمهانة فقال ( سموها ما شئتم ) وفي رواية قال ( القوم حمقى رضوا المعنى وأبوا الإسم ) وحتى على مستوى مبادئ النظام نجد أن قوانين الحكم والتعايش الإنساني في الإسلام هي أساس بعض ما توصلت إليه شعوب الغرب بعد قرون من الصراعات الفكرية كمثل ( العدالة الإجتماعية – حق الاختيار – المحاسبة – فصل السلطات – استقلال القضاء – حرية التعبير – تداول السلطة ) وغيرها فأساس هذه الأفكار موجود في شريعتنا بل إن هناك دراسة نشرت مؤخرا في أمريكا تشير إلى أن بعض أفكار وثيقة الإستقلال التي شارك في صياغتها المؤسس جونسون كانت مستمدة من نسخة ترجمة القرآن الخاصة به .

متى تكون الدولة إسلامية ؟

قال الله تعالى ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ تضمنت هذا الآية أهم البنود التي تذكر عادة في الدساتير المعاصرة والتي تعلن بها عقيدة الدولة ( والذين استجابوا لربهم ) ونظامها السياسي ( وأمرهم شورى بينهم ) والاقتصادي ( ومما رزقناهم ينفقون ) فأي دستور لأي دولة يجب أن يحدد أولا عقيدة الدولة سواء علمانية أو مسيحية أو إسلامية ثم نظامها السياسي هل هو ديمقراطي أو ملكي وغيره ثم نظامها الاقتصادي هل هو رأسمالي أو اشتراكي أو يجمع بينهما وهذا الأمر لم تحتج إليه البشرية سابقا لأن أنظمة الحكم لم تكن متطورة إداريا كما هو الآن في الدول الحديثة التي يرتبط كل شيء فيها بنظامها المعلن في الدستور وحتى بالنسبة للمسلمين الأكثر تطورا بين الأمم آنذاك لم تكن هناك حاجة للتعريف بالدولة إلا ما جاء في الفقه من أحكام الديار دار إسلام ودار كفر والتي زاد عليها ابن تيمية دار مركبة في مسألة ( ماردين ) أما مع التطور الحضاري في العصر الحديث فقد ظهرت أهمية تحديد عقيدة الدولة وأنظمتها لأنها العناوين الرئيسية التي تشكل شخصية الدولة وبالتالي تشكل شخصية الشعب دينيا وثقافيا واقتصاديا وهذا سبب محاربة الغرب لمحاولات الإسلاميين صياغة دستور إسلامي لأن وجود دستور إسلامي تحت حكم العسكر كما في باكستان لا ينتج عنه شيء ووجود إسلاميين في السلطة دون وجود دستور إسلامي كما في تركيا أمكن سابقا تداركه بالانقلابات ولكن وجود دستور إسلامي وحكومة إسلامية هو الذي يشكل خطر على الغرب لأنه يمهد لعودة الشخصية الإسلامية لمجالات الحياة المختلفة تلك الشخصية التي يخشى الغرب أن تجدد عصر النهضة الإسلامية فالمسلمين على مر العصور مروا بمراحل صعود وبمراحل انحطاط ولكن كان هناك دوما شخصية تدفعهم للأمام وهي ما يحرص الغرب على طمسها فينا خاصة بعد مرحلة الإستشراق التي تمكن من خلالها من فهم العالم الإسلامي .

ولذا نستطيع القول بأن العلامة التي جعلها الفقهاء قديما مقياسا للحكم على الديار بأنها دار إسلام وهي ( عُلو أحكام الإسلام فيها ) تنطبق في العصر الحديث على الدولة التي تنص على ذلك في دستورها بشكل واضح ولا يلغي هذا الوصف ما تتلبس به من مخالفات من عهد لآخر والحديث هنا عن وصف الدولة وليس وصف الحاكم الذي يكفي فيه حديث ( إلا أن تروا كفرا بواحا ) فالبلدان الإسلامية منذ الخلافة الأولى في عهد أبي بكر إلى الدولة الأموية ثم العباسية ثم العثمانية وما تخللها وعاش في ظلها من دويلات كانت تدين بالإسلام كنظام حياة وحكم وهذا المبدأ لم يتغير رغم كم المخالفات الشرعية الجسيمة كالفساد المالي الذي ورثه الخليفة عمر بن عبد العزيز أو الفساد الفكري كقضية خلق القرآن التي تم تبنيها في عهد المأمون أو الفساد الأخلاقي الذي عشش في قصور حكام الأندلس وحتى على مستوى التغيرات التي طرأت على النظام السياسي في الإسلام ( الشورى ) مع بداية نظام التوريث في عهد بني أمية ثم شعار الرضا من آل محمد الذي مهد لحكم العباسيين ثم بروز القوة العسكرية والسياسية التي تحكم من خلف الستارة بعد تراجع مركز الخليفة وتحوله لمنصب شكلي كبني بويه والسلاجقة والأيوبيين والمماليك وغيرهم ثم بداية عهد نظم الحكم الحديثة وكتابة الدستور وتنظيم القوانين ومجلس ممثلي الشعب في أواخر العهد العثماني فمع كل هذه التطورات التي طرأت على النظام السياسي ظلت البلدان الإسلامية تدين بالإسلام كنظام حكم وحياة وهذا الأمر لم يتغير إلا بعد سقوط الخلافة العثمانية وفرض بريطانيا لبند إلغاء الحكم بالشريعة الإسلامية في معاهدة ( لوزان ) ١٩٢٣ فمنذ ذلك بدأت الدولة القومية العلمانية بالظهور وبدأ واقع جديد لم يعهده المسلمون وتكرس وجوده بعد الحرب العالمية الثانية التي أنتجت النظام الدولي المعاصر ولذا أي حرب أو صراع ينتج عنه إعادة وضع الإسلام كنظام للحكم والحياة والتسليم بذلك بنص واضح في دستور الدولة يعيد نفس السقف الشرعي الذي تعايش تحته المسلمون لأكثر من ألف عام منذ العهد الأموي إلى نهاية العهد العثماني مهما اندرج تحته من فساد فكري أو مالي أو أخلاقي ومهما ابتعد عن منهج الشورى فما دام نظام الدولة يقر بأن الشريعة مصدر التشريع الوحيد ويبطل كل قانون يخالفها فالمناخ السياسي هنا هو إسلامي مهما تلطخ بقرارات أو مظالم قد يتواطأ عليها مسؤولي الدولة بالتحايل أو الاستبداد إلا أن نظام الدولة الإسلامي لا يقرها لأنها مخالفة للشريعة الإسلامية مصدر التشريع فتظل بذلك فرصة نقض هذه القرارات متاحة مهما طال الزمن أو حماها المستبد ولعل في حديث بريرة الذي أمر فيه النبي صلى الله عليه وسلم عائشة بأن تؤدي ثمن إعتاق بريرة لأهلها وتقبل باشتراط الولاء لهم مع تأكيده بأن الولاء لمن أعتق وأن أي شرط ليس في كتاب الله فهو باطل دليل على أن المخالفة الشرعية قد يلجأ للتعايش معها لظرف ما إلا أن وجود قانون أعلى ( كتاب الله ) يجعلها تحت تهديد النقض متى ما تبدلت الظروف التي ولدتها وهذا يمكن اعتباره في مجلس الشورى الذي قد يصدر عنه مخالفات شرعية ولكن وجود قانون أعلى وهو الدستور الإسلامي يتيح إزالة هذه المخالفات لأن نظام الدولة هنا يستوعب واقعية ضغط الواقع ويصحح نفسه تلقائيا بعكس الدساتير التي لا تهيمن عليها الشريعة لأن المخالفات حينئذ تأخذ صفة قانونية دائمة وهذا هو الفرق بين النظام الذي أتاح للخليفة عمر بن عبد العزيز التعايش مع المخالفات التي ورثها والتدرج في إصلاحها وبين النظام الذي لا يعترف بحق الشريعة في ذلك فالأول إسلامي والثاني علماني


التعليقات