حروب العصابات السياسية

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه.

ثم أما بعد.

النظام العالمي الذي نشاهده الآن نشأ جراء سلسلة صراعات كبرى بدأت مع العصر الصناعي قبل أكثر من قرن، والذي ضاعف قدرة الدول على احتلال دول أخرى، فظهور الطفرة الصناعية في أوروبا دفع الأوروبيين للخروج من القارة بحثا عن المواد الخام في العالم لإمداد مصانعهم بها؛ فبدأت بذلك مرحلة الاستعمار التي أظهرت نوعًا جديدًا من القوة يعتمد على التقدم العلمي والثقافي بدلا من كثرة العدد وشدة البأس، كما كان حال الحروب قبلها؛ فأصبحت دولة صغيرة مثل بلجيكا تحتل دولة أكبر منها ب ٧ مرات مثل زائير لأن الجندي البلجيكي يحمل بندقية آلية في مقابل حراب الأفارقة البدائية، واستطاعت بريطانيا عبر شركة الهند الشرقية من السيطرة على القارة الهندية بتفوقها السياسي الذي مكنها من التغلغل تحت غطاء تجاري، ثم ضرب الهندوس بالمسلمين، ثم خلق اضطرابات لتكون حجة تستقدم بها الشركة قوات حماية بريطانية متفوقة عسكريا، وتدريجيا تم سحب البساط من ملوك المسلمين هناك، وتحول الهنود لخدم وجند لبريطانيا العظمى.

وخروج الأوروبيين نحو بقية المناطق لم يأتِ فقط للمنافسة على ثروات العالم، بل أيضا بسبب معاهدة (وستفاليا) في القرن الثامن عشر، والذي اتفقت فيها الإمارات الأوروبية على إيقاف الحروب بينها، واحترام سيادة الدول الأوروبية وعدم التدخل في شؤونها الداخلية؛ فقارة أوروبا هي أكثر قارة عانت من الحروب الداخلية المتتابعة، وهذا بجانب ظهور خطر الخلافة العثمانية التي سيطرت على أجزاء من شرق أوروبا جعلهم يتوصلون لمبدأ احترام السيادة الوطنية لمنع اشتعال الحروب الداخلية بينهم، وفي هذه الفترة بدأت أوروبا بالصعود الصناعي والثقافي، وبدأت الخلافة العثمانية بالأفول؛ لتخلفها عن ركب الصناعة، ولنجاح الأوروبيين وبخاصة بريطانيا وفرنسا بخلق اضطرابات دائمة داخل الدولة العثمانية.

وفي هذه الأجواء اشتعلت الحرب العالمية الأولى بين ألمانيا والنمسا والخلافة العثمانية من جهة، وبين بريطانيا وفرنسا وروسيا وأمريكا من جهة أخرى، وعادت أوروبا كساحة حرب طاحنة امتدت لشمال أفريقيا والشام وجزيرة العرب، وهذا سبب تسميتها بالحرب العالمية، ثم انتهت الحرب برضوخ ألمانيا وتوقيعها على معاهدة (فرساي) عام ١٩١٨ بعد أربع سنوات من الحرب، ووافق الألمان على دفع تعويضات والتخلي عن مناطق لهم، والتعهد بعدم تطوير التصنيع العسكري ووضع سقف لأعداد الجيش، وتم أيضا تفكيك الامبراطورية العثمانية والنمساوية عقوبة لتحالفهما مع ألمانيا، وتقاسمت بريطانيا وفرنسا الهيمنة على معظم تلك المناطق.

بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى اجتمع المنتصرون وأنشأوا منظمة «عصبة الأمم» وهي أول مؤسسة دولية لدول العالم، ولأنها التجربة الأولى فلم تحظ بنجاح في إدارة ما بعد الحرب، ولذا استطاعت ألمانيا التفلت من العقوبات وعادت للتصنيع الحربي، والألمان قوم ذو ثقافة عسكرية قديمة؛ فهم أهل حرب منذ القدم، وهذا بجانب ذكائهم جعلهم متفوقين على محيطهم الأوروبي، وبسبب وجود هذا الاعتزاز بالنفس والشعور بالتفوق كان من الصعب عليهم الاستمرار بتقبل معاهدة مذلة كمعاهدة (فرساي)، ووسط هذا الشعور بالتذمر ظهر هتلر والحزب النازي الذي راح يدندن على أن معاهدة فرساي مذلة للألمان وأن اليهود متآمرين مع الغرب ضدنا، وأننا يجب أن نبني ألمانيا العظمى من جديد، ونظم لها كل الشعوب التي تنطق بالألمانية، وسرعان ما تقبل وتأثر الألمان بهذه الشعارات التي لامست أنفسهم من الداخل فصوتوا لهتلر في الانتخابات، وأصبح رئيس ألمانيا وخلال سنوات معدودة جعل جيشها الأكثر تفوقا صناعيا وفكريا فاجتاحت جيوشه المدرعة شرق وغرب أوروبا وتحالف مع إيطاليا واليابان ضد بريطانيا وفرنسا وروسيا وأمريكا وبدأت الحرب العالمية الثانية في عام ١٩٣٩ وانتهت باستسلام ألمانيا في عام ١٩٤٥ وتم تقسيمها، وبقاء جيوش الحلفاء فيها لضمان عدم عودة الألمان لإشعال الحروب مرة أخرى.

وبسبب اختلاف ثقافات المنتصرين انقسم العالم لمعسكرين: الأول شيوعي برئاسة الاتحاد السوفيتي وضم معه الدول الشرقية، والثاني رأسمالي برئاسة أمريكا ومعها دول الغرب، وحاولت بقية دول العالم الحياد عبر منظمة دول عدم الانحياز وبدأ هنا عصر الحرب الباردة والتي تتجنب فيها القوى العظمى التورط بحروب مباشرة مع بعضها وتكتفي بحروب الوكالة عبر حلفائها الصغار، وهذا يرجع بشكل رئيسي لظهور السلاح النووي الذي إن استخدمته الدول العظمى ضد بعضها فلن يستطيع أحد تخيل الدمار في العالم، ولذا يعتبر المفكرون أن القنبلة النووية كانت صمام أمان حال دون حدوث حرب عالمية ثالثة؛ فالأزمات والصراعات لم تنتهي بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن وجود سلاح الردع النووي أبعد الدول العظمى عن خيار الحرب المباشرة لصالح حروب الوكالة والمخابرات وسباق التسلح وغزو الفضاء كحلبة صراع تغني عن التورط بحرب نووية قد تأكل الأخضر واليابس.

فشل المنتصرون في إدارة ما بعد الحرب العالمية الأولى جعلهم يرتبون أوراقهم جيدا لإدارة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ولذا خطط الغرب جيدا هذه المرة ورتب أفكاره بشكل يضمن استثماره للنصر بهيمنة عالمية سياسية عسكرية اقتصادية مستدامة؛ فقبل دخول أمريكا الحرب العالمية الثانية كانت لجنة استشارية خاصة قد أنهت تقريرًا مطولًا عن أهداف الحرب التي يجب أن تفرضها أمريكا مع حلفائها في النهاية، وأوصت بإنشاء منظمة «الأمم المتحدة» لتحديد المقبول والمرفوض تجاه أحداث العالم، و«مجلس الأمن» لاحتكار إعطاء الغطاء الشرعي للحروب، و«البنك الدولي» و«صندوق النقد» لإدارة اقتصاد العالم، وهذه هي مؤسسات الهيمنة الغربية على العالم؛ فأي اعتراف بدولة جديدة لن يتم إلا إن سمح الغرب بحصولها على مقعد بمنظمة الأمم المتحدة لتنخرط سياسيا ببقية العالم وتفتح سفارات ويعترف بسيادتها وغيره، وأي دولة تغزو دولة أخرى بغير إذن الغرب يأتي دور مجلس الأمن لإصدار إذن دولي بمعاقبتها عسكريا كما حصل في غزو العراق للكويت وبغزو الصرب لكوسوفو وغيرها وأي دولة تحاول الحصول على النووي أو تدعم (الإرهاب) يتم فرض العقوبات الاقتصادية عليها لخنقها حتى ترضخ عبر البنك الدولي كما مع إيران وكوريا الشمالية وفي بعض الحالات يمكن إلغاء قيمة عملتها عبر صندوق النقد.

ومع انهيار الاتحاد السوفيتي في نهاية الثمانينات انتهت الحرب الباردة الأولى، وأصبحت أمريكا شرطي العالم، وهذا ما جعلها تتوسع لتنشر أكثر من ٧٠٠ قاعدة عسكرية حول العالم، إلا ان استنزاف أمريكا في حربها على القاعدة طوال العقد الماضي في أفغانستان والعراق والذي هز هيبتها سياسيا وعسكريا وكان سببًا رئيسيًا في الأزمة الاقتصادية تزامن مع صعود الصين وتعافي روسيا، وهذا أعاد شيئًا من التوازن العالمي؛ فانتهت بذلك فترة القطب الأمريكي التي امتدت لعشرين عامًا، وعاد الروس لاستخدام الفيتو ضد قرارات أمريكا في مجلس الأمن وهو أمر لم يتمكنوا منه فترة ضعفهم السابقة في العشرين عامًا التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي، وعادت أساطيلهم تجوب المحيطات، وعادت روسيا تتصرف كقوة عظمى كما كانت في السابق، وهذا ما جعلها تتمسك بحلفائها في إيران وسوريا وأوكرانيا وصربيا وغيرها وبذا يكون العالم قد دخل رسميا في حقبة الحرب الباردة الثانية.

التطور العلمي والثقافي الهائل الذي حدث في القرن الماضي غيَّر شكل الدول ووظائفها ودورها داخليا وخارجيا؛ فالدولة قديما كانت مسؤوليتها تقتصر على حماية الشعب، وحفظ الأمن والقضاء في الخصومات وجبي الضرائب، أما الآن فهي مسؤولة عن كل كبيرة وصغيرة، ولذا نرى كيف أن ارتفاع نسبة البطالة في أي بلد أوروبي كفيل بالإطاحة بالحكومة، وهذا يختلف من بلد لآخر بحسب تطور ثقافة الناس وطبيعة نظام الحكم، إلا أن القصد أن وظيفة الحاكم والدولة قديما تختلف عما هو الآن بسبب التطور الذي حدث في احتياجات الشعوب؛ فالغذاء والدواء والسلاح والأجهزة الكهربائية ومواد البناء والوقود هي سلع أساسية يتم تداولها عالميا باتفاقيات بين الدول، وهذه الاتفاقيات تعتمد على قدرة الحكومات الحديثة على ترتيبها وفق المصالح التي لا تصادم القوى العظمى المهيمنة على الاقتصاد العالمي عبر البنك الدولي وصندوق النقد ومنظمة التجارة العالمية؛ فلم يعد وجود الثروات الطبيعة في بلد كالنفط والذهب والمعادن كفيل بجعله بلدا غنيا وبجعل حكومته ناجحة في الحكم؛ لأن هيمنة الغرب على النظام الدولي تتيح إبقاء هذا البلد في دوامة الفقر والمشاكل الاقتصادية والسياسية كما فعلوا مع السودان الذي يتمتع بالنفط ويجري فيه النيل ويطل على البحر ولديه أراضٍ زراعية وغيرها من مقومات النهضة، ولكن وصول الإسلاميين للحكم دفع الغرب لفرض عقوبات اقتصادية بحجة استضافة ابن لادن والظواهري ودعم الإرهاب ودفعه لتغذية النزاعات الداخلية ودعم ملف انفصال الجنوب، ولذا راوح السودان في مكانه ولا يكاد يخرج من أزمة حتى يدخل بغيرها ونفس الأمر مع العراق وكوبا وإيران وكوريا الشمالية؛ ففي كل منها يحرص الغرب على إجهاض أي نجاح ليتم ترويض سياسة البلد مع الوقت وتختلف مقاومة كل بلد بحسب الظرف العالمي؛ فهامش الصمود كان أقوى فترة القطبين في الحرب الباردة الأولى وأصبح أضيق في فترة القطب الواحد عندما تسيدت أمريكا العالم، وأصبح الرئيس بوش يخاطب دول العالم بكل غطرسة: «إما معنا أو مع الإرهاب» ويشن حروبًا دون إذن من مجلس الأمن لأنه لم تكن هناك قوة تستطيع إيقافه.

أما بعد تراجع مركز أمريكا وعودة التوازن العالمي ورفض الشارع الأمريكي لخوض حروب جديدة بعد مآسي الحرب ضد القاعدة وآثار الأزمة المالية أصبحت أمريكا أعجز من التحرك بمفردها وأصبح هامش الصمود لأعداء أمريكا أكبر كل بحسب وضعه وظروفه وموقعه.

هذا الشكل الجديد لأنظمة الحكم ومسؤوليات الدولة وعلاقة ذلك بالنظام الدولي الذي يهيمن عليه الغرب منذ انتصاره في الحرب العالمية الثانية أنتج وسائل جديدة وخطيرة لإسقاط أو إضعاف الأنظمة المناوئة للغرب؛ فلم يعد الأمر يرتبط بالعمل العسكري وحده وإنما بمنظومة وأدوات إعلامية واقتصادية ومخابراتية تتظافر لإضعاف النظام المناوئ وتأليب الشارع عليه وتشتيته بدوامة اضطرابات داخلية وأزمات إقليمية، وهنا تختلف درجة مقاومة وصمود الدول المناوئة للغرب بحسب نجاحها في إدارة وتجاوز الأزمات التي يخلقها الغرب لها؛ فالدول الشيوعية شرق أوروبا سقطت بدون إطلاق رصاصة واحدة بل لتراكم السخط الشعبي نتيجة للفشل الاقتصادي والحرب الإعلامية الأمريكية، ودول أخرى مثل كوبا وإيران وكوريا الشمالية والسودان نجحت في تأمين نفسها في جوانب الأمن الداخلي والاقتصادي بدرجة مكنتها من الصمود بجانب تحالفات إقليمية ودولية لمقاومة العزلة المفروضة عليها ودول أخرى تم إسقاط النظام فيها بسهولة أكثر لعدم وجود مناعة عسكرية أو سياسية كالدول التي أنشأها المجاهدون في أفغانستان والشيشان والصومال.

هذا التطور الكبير الذي طرأ على النظام الدولي من جهة، وأنظمة الحكم ومسؤولياتها من جهة أخرى؛ هو ما دفع الشيخ أسامة بن لادن رحمه الله لاستراتيجية التركيز على رأس النظام الدولي (أمريكا) لإضعاف المنظومة التي تثبت حكم الأنظمة الإقليمية بدلا من الانشغال بقتال الأنظمة نفسها، ودفعه أيضا لنصيحة أمير فرع القاعدة في اليمن ناصر الوحيشي بعدم السيطرة على صنعاء عاصمة اليمن، وعلل ذلك بأن الحركات الجهادية غير مؤهلة بعد لتولي مسؤوليات الحكم في الدول الحديثة، وقال حرفيا في رسالته للوحيشي (أن طبيعة الدول قد تغيرت)، وهذا الإدراك من قبل الشيخ ابن لادن جاء بعد مشوار طويل مع المشاريع الجهادية في الثلاث عقود الأخيرة، وهو أيضا نابع من تخصصه؛ فهو خريج علوم إدارية، ولذا كان رأيه مبنيًّا على تجربة وعلم عندما قال: «إقامة الدول قبل اكتمال مقومات نجاحها هو في أغلب الأحيان إجهاض للعمل الجهادي»، وأهم مقومات النجاح للدول هي المناعة السياسية والاقتصادية والعسكرية، وهي أمور فوق طاقة الجهاديين لوحدهم ولذا تستلزم مشاركة بقية الحركات الإسلامية والاتجاهات السياسية تحت سقف شرعي مجمع عليه، وبما يوفر أرضية سياسية مرنة تبعد شبح الاقتتال الداخلي وتسد ثغرات التدخل الخارجي والاصطدام مع الغرب، وهذا المحك هو الذي طالما فشل الجهاديون في اجتيازه لضيق الأفق السياسي الشرعي لديهم.

فمشكلة الجماعات الجهادية ليست في إيجاد طريقة لمقاتلة النظام الدولي لأن القاعدة عبر حرب العصابات حول العالم اختصرت الطريق، بل المشكلة في ايجاد طريقة للحكم الإسلامي في ظل النظام الدولي، وهذا يحتاج لما أسميه «حرب عصابات سياسية» فكما أن الحسابات العسكرية قادتنا لأن ندرك أن المواجهة المكشوفة مع خصم متفوق عسكريا مثل أمريكا.. هي انتحار عسكري، وأن استراتيجية حرب العصابات هي المناسبة لخلق حالة توازن في ميزان الردع بيننا؛ فأيضا الحسابات السياسية تقودنا لنفس النتيجة بأن المواجهة السياسية المكشوفة مع الغرب هي انتحار سياسي «إعلان دولة»؛ لأن الغرب وبهيمنته على النظام الدولي يستطيع إجهاض أو إضعاف أو احتواء أي نجاح لنا في مجال الحكم حتى تتنامى الأمراض والاضطرابات والفقر والسخط الشعبي ويأتي المناخ المناسب لاجتثاثنا عسكريا كما فعلوا مع أفغانستان والعراق، ولذا ينبغي وبنفس المنطق الذي قادنا عسكريا لاستراتيجية حرب العصابات أن ننسج حرب عصابات سياسية تمكننا من الصمود السياسي بوجه النظام الدولي؛ فكما أن تمركزنا عسكريا في قاعدة ثابتة يعطي الغرب فرصة لضربنا بشكل مؤثر، فأيضا وجودنا في سدة الحكم يعطي الغرب فرصة لإجهاض الحكم عبر أدواته، ولذا ينبغي الابتعاد عن الواجهة السياسية في البلدان المهيأة للحكم الإسلامي، والانخراط بتحالفات ضمن الإطار الشعبي وتحت سقف شرعي مقبول، والتركيز على تنمية القدرات العسكرية ضمن أجهزة الدولة لتبقى صمام أمان نضمن به عدم بناء أجهزة موالية للغرب، وهذا النموذج هو خلاصة ما توصل إليه قيادات ومشايخ الجماعة الليبية المقاتلة؛ فتاريخهم الطويل في قتال نظام القذافي منذ ٣٠ عامًا ودورهم الحيوي في الثورة واقتحام طرابلس وسيطرتهم على معظم العاصمة بجانب القواعد والمواقع العسكرية لم يدفعهم لإعلان دولة أو إمارة، بل ذهبوا مباشرة لنسج تحالفات مع بقية القوى الإسلامية والثورية وأبدوا مرونة في التعامل مع الخارج، ثم اجتهدوا اجتهادا فقهيا يجيز الدخول في نظام الدولة الديمقراطي بعد أن يعلن رسميا أن الشريعة هي المصدر الوحيد للتشريع (سقف شرعي)، ومن ثم يستكملوا بناء النظام الإسلامي عبر صياغة دستور يضمن تطبيق الشريعة والتدرج مع الشعب في ذلك، وهذا الاجتهاد ضمن لهم زرع أنفسهم داخل أجهزة الدولة الجديدة حتى لا تستخدم ضدهم لاحقا، وهو ما حاوله الغرب دون جدوى، ولذا اضطر لدعم حفتر لاجتثاث الإسلاميين بعد أن فشل في عزلهم عن الشارع أو إسقاطهم بالعملية السياسية عبر عميلهم محمود جبريل؛ فسيطرة إسلاميي طرابلس ومصراته على المؤتمر الوطني (البرلمان) وأجهزة الدولة الحساسة كالمخابرات والجيش والحرس الوطني والسجون، واحتفاظهم بقوات درع ليبيا كاحتياطي ردع جعلهم رقم يصعب تجاوزه في المعادلة الليبية، بل وسمح لهم برص الشارع خلفهم في مواجهة مكائد الغرب والثورة المضادة، وهذا ما كان ليتم لولا توفيق الله لهم باتباع استراتيجية «حرب عصابات سياسية» سحبت من الغرب فرص عزلهم عن الثورة، وسحبت من الغرب فرص استخدام أجهزة الدولة ضدهم؛ فأصبح هناك تكافؤٌ سياسي اضطر الغرب لإعطاء الضوء الأخضر لمصر والسعودية والإمارات لتنظيم ثورة مضادة تحت غطاء محاربة الإرهاب، ولكن تنمية القدرات العسكرية لثوار ومجاهدي ليبيا جعل من الصعب إزاحتهم عسكريا بعد أن فشلت عملية إزاحتهم سياسيا وهذا، النموذج الذي قدمته الجماعة الليبية المقاتلة عبر اجتهادها السياسي الشرعي وفر مناعة سياسية عسكرية اقتصادية ساعدت على صمود الإسلاميين ككل بوجه مخططات الغرب، ومن ثَمَّ أصبح الطريق واضحا بأن إسقاط نظام القذافي ثم إسقاط الثورة المضادة سيعقبه انعتاق ليبيا من هيمنة الغرب، وهو المناخ الصحي لقيام دولة إسلامية، وهذا يرجع بدرجة كبيرة لنجاح الإسلاميين (خصوم الغرب) بالحفاظ على وجودهم كقوة سياسية وعسكرية، والذي يرجع لنجاحهم في تفويت الفرصة على الغرب بعزلهم عن الشعب سياسيا، وتفويت الفرصة بعزلهم عن الانخراط في أجهزة الدولة.

هذا الوعي السياسي لدى جهاديي ليبيا هو ما جعل الغرب شبه مشلول أمامهم؛ فالغرب تعود على جماعات جهادية تقفز دائما لتظهر سيطرتها على مناطق الفوضى، فيدعها لفترة ريثما يشعل اضطرابات داخلية وحصار وفتن ليضجر الناس منها خصوصا مع شعورهم بالإقصاء، ثم يسلط الضوء على عمليات إقامة الحدود التي تحرص الجماعات الجهادية على نشرها إعلاميا بلا مبرر وقبل انتهاء الحرب وقبل أي تمكين نهائي؛ فيطير بها إعلام الغرب ليثبت أن المدنيين يتعرضون لإرهاب وحشي، وهكذا تتم تهيئة الرأي العام المحلي والعالمي لقبول التدخل العسكري؛ فيبدأ الغرب باستخدام أدوات النظام الدولي لإدانة جرائم تلك الجماعة الجهادية عبر الأمم المتحدة ووضعها بقائمة الإرهاب، ثم تجميد أرصدة كل من يدعمها ماليا وملاحقتهم قانونيا، والتضييق عليهم في بلدانهم، ثم إصدار قرار من مجلس الأمن لشن هجوم عسكري لاجتثاثهم، وتشكيل تحالف عسكري من أجل ذلك، وهذه القصة هي غالبا ما يتكرر مع الجماعات الجهادية، إلا أن الوعي السياسي الشرعي الذي تحصنت به الجماعة الليبية المقاتلة هو ما حرم الغرب من تكرار ذلك معها، ولذا عجز عن تشويهم إعلاميا وعجز عن إصدار قرار أممي ضدهم يمكنه من تشكيل تحالف عسكري لاجتثاثهم، وهذه هي فائدة «حروب العصابات السياسية» فهي تحرم الغرب من أدوات الهيمنة السياسية التي أنشأها في أعقاب انتصاره في الحرب العالمية الثانية، وتجعله يلجأ لخيارات أخرى نستطيع مواجهتها سياسيا كما في حروب العصابات العسكرية التي تحرم الغرب من تفوقه التقني في السلاح النووي وحاملات الطائرات والصواريخ الباليستية، وتجعله يلجأ لخيارات العمل البري الذي استطعنا مواجهته بالكر والفر.

وهكذا فلكل صراع بشري مفاتيح للنجاح تناسب وقته؛ فكما أن أسلحة العصور القديمة كالسيف والرمح لا تناسب حروبنا المعاصرة بسبب التطور الصناعي في الآلة الحربية، فكذلك أساليب الحكم القديمة لا تناسب عصرنا الحديث بسبب تطور الفكر السياسي حول دور الأنظمة واحتياجات وحقوق الشعوب وسطوة النظام الدولي.

وبالله التوفيق


التعليقات