تتساءل الجاهلية بغباء..

“قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء”..
“قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون”..

الجاهلية تنطلق دائما من مواجهة الحق -كأحد الوسائل- بتسفيهه ونسبته إلى الضعفاء والسفهاء والفقراء وعديمي الذكر..إلى الطبقة الاجتماعية الأقل..وهذا التسفيه كما هو مدخل لإهدار الحق شكلا بديلا عن الإهدار الموضوعي غير الممكن، فهو أيضا تمهيد نفسي لسفك دم أهل الحق لاحقا ومحاولة استئصالهم، باعتبارهم “شيئا” أقل، لا ضير في استئصاله..والحق دائما في مواجهة تلك الدعوى الفارغة ينطلق بما يقتضيه كونه حقا؛ وهو التأكيد على أن تفضيل الناس إنما بالتقوى والعمل والقلب..

ولأن منطلقات الصراع بين الحق والجاهلية مطّردة واحدة؛ فما زال هذا المنطلق قائما وأثره موجودٌ حتى اليوم..
فتاريخيا وحتى اليوم كان هناك -على مستوى الاتجاهات الاجتماعية- ترابط وثيق جدا بين الطبقات الاجتماعية الأغنى والأكثر رقيا -بمعايير المجتمع- والأكثر اعتبارا وسلطة في المجتمع، وبين الارتباط بالجاهلية ودعم ما يمثلها حتى ولو كان الاستبداد الواضح والدموية الصادمة التي تتعارض مع الرقي المفترض (خصوصا في عالم اليوم)..ودائما هناك تلك النظرة إلى العدو -أهل الحق- بما لا يقتصر على مجرد الكراهية (التي تصلح أن تكون بين المتماثلين)؛ وإنما يغلف تلك الكراهية طبقية واحتقار ونظرة دونية، للمبررات السابق ذكرها (دوس يا سيسي خلي البلد تنظف)..

ولأن الجاهلية كلها تريد أن تصدق أن أهل الحق هم الدونيّون الضعفاء الذين لا يستحقون الحياة أكثر مما تستحقها الحشرات؛ فإن الصدمة تكون مربكة لهم حينما يتبدى العكس..

لذلك هناك سؤال ممل بشدة تطرحه الجاهلية الغبية -التي لا تعقل- كل فترة (ربما هو سؤال بعمر الحركة الإسلامية)..تتغير صورته حسب الموقف..أسئلة كـ:
لماذا احتوت الحركات الإسلامية أعدادا كبيرة من المتفوقين تعليميا (أطباء ومهندسين ومعلمين ومثقفين وجامعيين وغيرهم)؟
لماذا ترك الشباب وظائفهم المريحة وأحوالهم “الراقية” وعائلاتهم الغنية واتجهوا إلى ساحات الجهاد وألقوا في السجون على مر عشرات السنين؟
والسؤال الذي يؤرق الغرب..لماذا يترك الغربيون الذين ولدوا في أوروبا وأمريكا بلادهم وحياتهم وأحلامهم للجهاد في سوريا والعراق وأفغانستان؟
ولماذا يترك محمد عطا المهندس الذي يدرس في ألمانيا ويذهب ليستولي على الطائرات ويفجرها في الغرب؟

واليوم: عشرات الصفحات تتحدث عن إسلام يكن وصديقه الغندور، وتتناول الأمر في استغراب: لماذا يقتنع هؤلاء الذين لم ينشأوا كما نشأ “الآخرون” بالأفكار “العنيفة” و”والمتطرفة”؟

 لكن في المقابل طبعا عندما يكون موضوع الحديث أو “الإرهابي” شخصا من الفئة “الأقل” ماديا أو اجتماعيا أو تعليميا، هنا يسهل عليهم جدا تحليل الأمر باعتبار أن هذا شباب محبط معدم يائس، أو جاهل مغرر به..هذا في التحليلات اللطيفة التي تحاول أن تكون إنسانية..وإلا فإن وجهة النظر الأخرى تكون “واتبعك الأرذلون”..واتبعك المتخلفون..واتبعك المعقدون نفسيا والمكبوتون جنسيا..واتبعك الحاقدون على المجتمع..وهو ما ينبني عليه مطلب وفعل “التطهير” و “خلي البلد تنظف” كما قلنا..والنظافة والتطهير هنا هو ملأ الشوارع بالدماء والجثث..هذه هي نظافتهم وطهارتهم..

لذلك فإن دعاوى “جهاد النكاح” وكل الكذب الشبيه بها -من نفس تلك النوعية- مهمة جدا لهم..لأنها تقدم ما يسد الفجوة لدى الأغبياء الذين لا يفهمون سر وجود غير “الأراذل” -بالنسبة لهم- مع الأراذل..وسر وجود من لا يملكون أسبابا للإحباط والجهل والفقر مع من يملكون تلك الأسباب..

ولهذا في المقابل، لا تعجبني نغمة “بتوع 50%” التي يلمز بها الكثير منّا المجرمين..لأنها مشابهة لمنهجهم في التقسيم الطبقي وجعله معيارا على الحق والباطل، ولأنها ليست دائما في صالحك (عندهم متفوقون وأذكياء)، ولأن الحق الذي معك يلزم منه ألا تفكر هكذا، وإلا أهدرت الحق الذي تمثله أيضا وساويت حجتك بحجته..(بخلاف أمر جانبي، أن نظامنا التعليمي ساقط الجودة والاعتبار بما لا يصلح لاعتباره مؤشرا..)

المهم في النهاية: أن هذه التساؤلات التي لا تمل الجاهلية من طرحها -في الغرب وعندنا- هي ليست تساؤلات حقيقية في المجمل بقدر ما هي محاولة نكران للحقيقة، وخوف من المواجهة الموضوعية مع النفس..


التعليقات