السيساوي المتدين (1)

ظاهرة (السيساوي المتدين) ليست مُعضلة أو مُحيرة إلى هذه الدرجة.. إنها مفهومة كشكل من أشكال تعدد الآلهة، وهي ظاهرة قديمة ومعروفة، بل وهي ببساطة فكرة (الشرك بالله)، فالمشرك في تعريفه ليس هو من يمتنع عن عبادة الله أو تخلو حياته من مظاهر توقير الله، ولكنه من يعبد الله ويعبد معه إله آخر. النفس البشرية يمكنها منح الشعور بالألوهية لعدة موضوعات متمايزة ومتباعدة، يحتل كل إله فيها مساحة خاصة، أما القلق الطبيعي الناتج عن هذا التعدد في الآلهة فيعالجه الإنسان بالامتناع عن مراجعة وجوده بشكل شامل قد يفضح اهتراء حالته الشعورية الممزقة.

السيساوي المتدين قد يكون متحمسا في علاقته مع الله، وقد يكون مشهودا له بحب الناس ومتحليا بمكارم الأخلاق، لكن كل هذا يصدر عن دوافع وطنية أو إنسانية تعود في أصلها إلى المساحة النفسية التي يحتلها الفرعون، أو عن دوافع دينية مختصة بالمساحة التي لله سبحانه، حبه للناس وللخير هو مزيج شبه متجانس بين شعائر إلهين مختلفين ودينين متباينين..

المزعج في وجود الإسلاميين في الحكم بالنسبة للسيساوي المتدين هو أن هذا الوضع يمثل عدوان وتداخل بين منطقتي نفوذ لإلهين يكن لهما كل احترام ويحاول الحفاظ على استقلالية كل منهما عن الآخر.. هذا التداخل مربك ومزعج ويهدده بفقدان توازنه النفسي. تتجلى حالة تعدد الآلهة هذه عند السيساوي المتدين في ظاهرة ازدواجية المعايير، فكل دين له معياره وحرامه وحلاله وواجباته، وكل إله له طقوسه الخاصة به، وما يحرص عليه السيساوي المتدين هو أن لا يرتكب حراما خاصا بدين معين في منطقة نفوذ هذا الدين.

فالسيساوي المتدين مثلا يحاسب الإسلاميين السياسيين على كل صغيرة وكبيرة فيما يخص الشريعة والالتزام بها، لكن هذا المعيار يتبخر تماما وبشكل عجيب حين تستقر الأمور لنظام فرعوني، فتمر نفس الأخطاء التي جعلت الإسلاميين بنظره شياطين، تمر هذه الأخطاء أمامه دون حتى أن تستدعي انتباهه.. كل ما في الأمر هي أن هذه الأخطاء تفقد كونها أخطاء لأن المجال النفسي تغير، فقد مرت الآن عبر مساحة شعورية دينية مختلفة أخذت فيها حكم المباح. مرسي حاول تبرير القرض الربوي بتأويل فاسد، فظهر اهتمام فجائي عند الشعب الآخر بمسألة الربا، ورفضوا تبرير مرسي للقرض، جاء نظام السيسي معلنا أنه لا مجال أصلا لتطبيق الشريعة، ففقدت مسألة الربا في لحظة كونه جريمة.. الديانة اختلفت.. الإله اختلف.. تماما كما تنظر لمسيحي مفطر في رمضان.. لا تشعر بأمر شاذ، لأن المسيحي لا يصوم.. الشعب الآخر لم يكف فقط عن إدانة القرض الربوية، بل لم تعد هذه القروض ماثلة أمامه كخطأ، حتى وإن كان مستمرا في النظر إلى الربا كشيء محرم، لكن (شعوره) بهذا التحريم اختفى في السياق الفرعوني.

بل إن المزاج النفسي للسيساوي المتدين يستقيم وينضبط ويستقر حين يتأكد من لا-أخلاقية النظام الفرعوني.. فاللا-أخلاقية السياسية هي الصواب وهي الحق وهي الواجب وهي الفضيلة في المساحة النفسية المخصصة لهذا الإله في ضمير أتباعه، وهي ما تؤكد للسيساوي المتدين أن إلهه الفرعوني (فوق الأخلاق) حقا وأن الأمور (على ما يرام).

السيساوي المتدين يشعر بالحرج أحيانا من معاييره المزدوجة، فيحاول الخروج من هذا المأزق بادعائه أنه غيور على الدين وأنه لا يرضى بأن يستغله الإسلاميون لأغراض سياسية.. هذا ادعاء كاذب، فالنموذج الفرعوني لم ينفك أبدا في لحظة من تاريخه عن استغلال الدين والتستر به، بل إن استغلال الدين عند هذا النموذج يمثل بالنسبة له بروتوكول ضروري، وليس تحويل الأزهر لمؤسسة (رسمية) منذ عبد الناصر إلا إحياء للعلاقة القديمة بين الفرعون وبين الكهنة والمعبد، لكن استغلال الدين هذا لا يزعج السيساوي المتدين، ولا يغار على الدين منه، ولا يسخط على فاعله، بل يعتبرها مجاملة رقيقة من الإله الفرعوني لأتباعه بوصفهم أتباع للإله السماوي أيضا.

والسيساوي المتدين يعلم أن علاقة الإله الفرعوني بالله هي علاقة مزيفة، والفرعون يعلم أنه عبيده يعلمون أنها علاقة مزيفة، بل ولا يسمح لهم بأن يعتقدوا غير ذلك أو أن يذهبوا بخيالهم إلى أنها علاقة حقيقية، فهذا لا يناسب مقام الفرعون كإله له مجاله الخاص، بل إن عبيد الفرعون لا يرضون لعلاقة الفرعون بالله إلا أن تكون مزيفة وشكلية، وليست أفلام عادل إمام (فنان السلطة) التي كانت زاخرة بدلائل لا-أخلاقية السلطة إلا تأكيدا سلطويا، أو بالأحرى (تطمينا) سلطويا على لا-أخلاقية الدولة الفرعونية..

أما السبب الحقيقي لرفض السيساوي المتدين للإسلام السياسي فليس أن هذا التيار يتضمن استغلال للدين وأنه لا يمثل علاقة حقيقية بالله، بل على العكس، سبب الرفض هو أن هذا التيار يأخذ علاقته بالله على محمل الجد، و(يقحم) هذه العلاقة في منطقة نفوذ الإله الفرعوني، بل إن المواطن السيساوي يتمنى أن يرسل الإسلاميون له إشارات مضمرة تدل على زيف علاقتهم بالله، حيث تبدو أمامه الأمور حينها أكثر قبولا، فشخصية الأزهري المعمم المنافق للسلطة هي أكثر قبولا للسيساوي المتدين من الشخص المعتنق للإسلام السياسي، بل هي شخصية تبدو منسوجة بسلاسة في الوعي الجمعي للشعب الآخر، وقد ينكرها السيساوي المتدين لكنها تبقى بالنسبة له في إطار ما يجب أن يكون. لذلك تثور ثائرة السيساوي المتدين ويتربص بكل ما يرتبط بالإسلام السياسي بصلة، ليس من باب رفضه لاستخدام الدين كما يزعم، ولكن بغرض (تطهير) مساحة كل إله من كل ما يتعلق بالإله الآخر.

بل ربما يثور على الإله الفرعوني نفسه حين يخونه ذكاؤه فيعتدي على المساحة الشعائرية الخاصة بالله سبحانه، لكن ثورته هذه سرعان ما تزول حين ينتبه الإله الفرعوني ويتراجع، وثورته هذه ليست ثورة على أصل وجود الإله الفرعوني، لكنها ثورة على تعديه وتجاوزه منطقة الإله السماوي. إفراد الله سبحانه بالعبودية يجب أن يتجسد في رفض وجود أنساق مختلفة من القيم.. ومعايير مختلفة في ضبط السلوك.. الحق ما قرره الله سبحانه بوصفه حقا.. والباطل هو ما قرره الله سبحانه بوصفه باطلا.. وهذا هو معنى لا إله إلا الله.


التعليقات