الأصول السبعة لصناعة إنسان قرآني

يرجى ملاحظة أن هذه المقالة من المقالات القديمة التي لا يتطابق تاريخ نشرها على الموقع مع تاريخ نشرها الفعلي

مقدمات لا بد منها

1- الإنسان كائن متغير

لأن الإنسان – في ابتداء أمره – ليس ملكا وليس شيطانا ، فهو بالتالي ليس خيرا صافيا ، ولا شرا صافيا . بل هو ذلك المزيج من صفات الخير والشر ، من أشواق الإيمان ونوازع الشهوات ، من القوة والضعف . وهذا كله يتفاعل في نفس الإنسان مع واقعه وخياله جميعا ، ليفرز التفاعل كائنا متغيرا ، يتحرك صاعدا في مدارج الكمال ، أو نازلا في دركات الأوحال …

لقد قال – تعالى – : ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا*قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ) فالاستعدادان موجودان … وقد أقسم ” الله تعالى سبع مرات بسبع آيات كونية ، هي الشمس ، والقمر ، والليل ، والنهار ، والسماء ، والأرض ، والنفس البشرية ، مع حالة لكل مقسم به ، وذلك على شيء واحد ، وهو فلاح من زكى تلك النفس وخيبة من دساها ” .

وقال: ( لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّم أَوْ يَتَأَخَّر ) فإرادة الإنسان تحدد اتجاه التغير ونسبته، لكنه لا بد من تغير ما … ” فكل فرد يحمل همَّ نفسه وتبعتها ، ويضع نفسه حيث شاء أن يضعها ، يتقدم بها أو يتأخر ، ويكرمها أو يهينها . فهي رهينة بما تكسب ، مقيدة بما تفعل . وقد بين الله للنفوس طريقه لتسلك إليه على بصيرة ” .

بل قال: ( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) فهذه ولاية تأخذ بناصية صنف من الناس إلى ما فيه صلاحهم … ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَالنُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ) وهذه ولاية تأخذ بناصية صنف آخر  إلى ما فيه تلفهم … الأولون قد “تولوه فلا يبغون عنه بدلا ولا يشركون به أحدا، قد اتخذوه حبيبا ووليا، ووالوا أولياءه وعادوا أعداءه، فتولاهم بلطفه ومنَّ عليهم بإحسانه، فأخرجهم من ظلمات الكفر والمعاصي والجهل إلى نور الإيمان والطاعة والعلم، وكان جزاؤهم على هذا أن سلمهم من ظلمات القبر والحشر والقيامة إلى النعيم المقيم والراحة والفسحة والسرور { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ } فتولوا الشيطان وحزبه، واتخذوه من دون الله وليا ووالوه وتركوا ولاية ربهم وسيدهم، فسلطهم عليهم عقوبة لهم فكانوا يؤزونهم إلى المعاصي أزا، ويزعجونهم إلى الشر إزعاجا، فيخرجونهم من نور الإيمان والعلم والطاعة إلى ظلمة الكفر والجهل والمعاصي، فكان جزاؤهم على ذلك أن حرموا الخيرات، وفاتهم النعيم والبهجة والمسرات، وكانوا من حزب الشيطان وأولياءه في دار الحسرة، فلهذا قال تعالى: { أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } “… والصنفان في تحريك مستمر …

فيا أخي الحبيب .. هل أنا وأنت إلا من جنس الإنسان المتغير هذا ؟!..

2- هدف إنزال القرآن

وبما أن كل إنسان متغير – كما سبق – فإن القرآن لم ينزل ليقر الناس على ما هم عليه … ولم ينزل ليوضع مغلقا طلبا للبركة – كما يتوهم البعض – … ولم ينزل ليمر على حروفه وكلماته كما يمر على لغة غير مفهومة … إنما أنزل القرآن ليغير الإنسان … التغيير الذي يحتاجه وينتفع به الإنسان …

  لذا قال – تعالى : ( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) فهو كتاب لتغيير الناس – وأنت منهم – .. من كل ظلمة يمكن أن تلف حياتهم .. إلى النور الذي يرتقون فيه ويسعدون … “وتعليل الإنزال بالإخراج من الظلمات دل على أن الهداية هي مراد الله تعالى من الناس ، وأنه لم يتركهم في ضلالهم ، فمن اهتدى فبإرشاد الله ومن ضلّ فبإيثار الضال هوى نفسه على دلائل الإرشاد ، وأمرُ الله لا يكون إلا لحِكم ومصالح بعضها أكبر من بعض .

  والإخراج : مستعار للنقل من حال إلى حال . شبه الانتقال بالخروج فشبه النقل بالإخراج.” وهذه علة إنزال القرآن بنص كلامه – تعالى – .

   ثم إن هذا التغيير يداوي نفسك ويكسبها الراحة ، كما قال – تعالى -: ( وَنُنَزِّل مِنْ الْقُرْآن مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَة لِلْمُؤْمِنِينَ ) فهو دواء لأمراض من يتعامل معه بإيمان … ” فقَيْد {لِلْمُؤْمِنِينَ} متعلق ب { رَحْمَة } بلا شبهة وقد خصه به جمهور المفسرين ” فالآية دليل “على اختصاص المؤمنين بالنفع بالقرآن”.

  و”(مِنْ) ليس للتبعيض ومعناه: وننزل من القرآن ما كله شفاء أي: بيان من الضلالة والجهالة يتبين به المختلف ويتضح به المشكل ويستشفى به من الشبهة ويهتدى به من الحيرة فهو شفاء القلوب بزوال الجهل عنها ورحمة للمؤمنين.” لأنه “مشتمل على العلم اليقيني، الذي تزول به كل شبهة وجهالة، والوعظ والتذكير، الذي يزول به كل شهوة تخالف أمر الله، ولشفاء الأبدان من آلامها وأسقامها.

وأما الرحمة، فإن ما فيه من الأسباب والوسائل التي يحث عليها، متى فعلها العبد فاز بالرحمة والسعادة الأبدية، والثواب العاجل والآجل.”

   إن “في القرآن شفاء من الوسوسة والقلق والحيرة . فهو يصل القلب بالله ، فيسكن ويطمئن ويستشعر الحماية والأمن؛ ويرضى فيستروح الرضى من الله والرضى عن الحياة؛ والقلق مرض ، والحيرة نصب ، والوسوسة داء . ومن ثم هو رحمة للمؤمنين .

وفي القرآن شفاء من الهوى والدنس والطمع والحسد ونزغات الشيطان . . وهي من آفات القلب تصيبه بالمرض والضعف والتعب ، وتدفع به إلى التحطم والبلى والانهيار . ومن ثم هو رحمة للمؤمنين .

وفي القرآن شفاء من الاتجاهات المختلة في الشعور والتفكير . فهو يعصم العقل من الشطط ، ويطلق له الحرية في مجالاته المثمرة ، ويكفه عن إنفاق طاقته فيما لا يجدي ، ويأخذه بمنهج سليم مضبوط ، يجعل نشاطه منتجاً ومأموناً . ويعصمه من الشطط والزلل . كذلك هو في عالم الجسد ينفق طاقاته في اعتدال بلا كبت ولا شطط فيحفظه سليماً معافى ويدخر طاقاته للإنتاج المثمر . ومن ثم هو رحمة للمؤمنين .

وفي القرآن شفاء من العلل الاجتماعية التي تخلخل بناء الجماعات ، وتذهب بسلامتها وأمنها وطمأنينتها . فتعيش الجماعة في ظل نظامه الاجتماعي وعدالته الشاملة في سلامة وأمن وطمأنينة . ومن ثم هو رحمة للمؤمنين .”

  بل إنه من أعظم ما يثبت به قلبك على الحق ، لذا قال – تعالى – عن حكمة تفريق تنزيله طوال فترة البعثة : ( كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ) فهو مثبت للفؤاد.. أمام ضعف النفس.. وأمام أصناف الشبهات.. وأمام ألوان الشهوات.. وأمام سهام الأعداء …

  وفي هذه الآية “بين – تعالى – الحكمة في هذا التفريق على مكث” ومعناها : “أي : نقوّيه به على القيام بأعباء الرسالة ، والنهوض لنشر الحق بين قادة الجهالة . فإن ما يتواتر إنزاله لذلك ، أبعث للهمة وأثبت للعزيمة وأنهض للدعوة ، من نزوله مرة واحدة” “لأنه كلما نزل عليه شيء من القرآن ازداد طمأنينة وثباتا وخصوصا عند ورود أسباب القلق فإن نزول القرآن عند حدوث السبب يكون له موقع عظيم وتثبيت كثير أبلغ مما لو كان نازلا قبل ذلك ثم تذكره عند حلول سببه.”

3- فهل صنعك القرآن ؟

هل غير أفكارك ومبادئك، فجاوزت طوق الأفكار الشائعة بين الناس، وصرت تعتمد على أرضية صلبة من حقائق الوحي … ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَّوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَٰلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ ۗ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ  ) ؟

  إنه في هذه الآية ” ينهى ـ تعالى ـ عباده المؤمنين عن مشابهة الكفار في اعتقادهم الفاسد، الدال عليه قولهم عن إخوانهم الذين ماتوا في الأسفار وفي الحروب: لو كانوا تركوا ذلك لما أصابهم ما أصابهم. فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ } أي: عن إخوانهم { إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ } أي: سافروا للتجارة ونحوها { أَوْ كَانُوا غُزًّى } أي: في الغزو { لَّوْ كَانُوا عِندَنَا } أي: في البلد { مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا } أي: ما ماتوا في السفر ولا قتلوا في الغزو.

وقوله: { لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَٰلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ } أي: خلق هذا الاعتقاد في نفوسهم ليزدادوا حسرة على موتهم وقتْلهم  ثم قال تعالى ردا عليهم: { وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ } أي: بيده الخلق وإليه يرجع الأمر، ولا يحيا أحد ولا يموت إلا بمشيئته وقدره، ولا يُزَاد في عُمُر أحد ولا يُنْقَص منه إلا بقضائه وقدره { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي: وعلمه وبصره نافذ في جميع خلقه، لا يخفى عليه من أمورهم شيء.

وقوله: { وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } تضمن هذا أن القتل في سبيل الله، والموت أيضا، وسيلة إلى نيل رحمة الله وعَفوه ورضوانه، وذلك خير من البقاء في الدنيا وجمع حطامها الفاني.

ثم أخبر بأن كل من مات أو قتل فمصيره ومرجعه إلى الله – عز وجل – فيجزيه بعمله، إن خيرًا فخير، وإن شرا فشر فقال: { وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ }

  إن قول الله في هذه الآيات “ليكشف عن الفارق الأساسي في تصور صاحب العقيدة وتصور المحروم منها للسنن التي تسير عليها الحياة كلها وأحداثها : سراؤها وضراؤها . . إن صاحب العقيدة مدرك لسنن الله متعرف إلى مشيئة الله مطمئن إلى قدر الله . إنه يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه . ومن ثم لا يتلقى الضراء بالجزع ولا يتلقى السراء بالزهو ولا تطير نفسه لهذه أو لتلك; ولا يتحسر على أنه لم يصنع كذا ليتقي كذا أو ليستجلب كذا بعد وقوع الأمر وانتهائه! فمجال التقدير والتدبير والرأي والمشورة كله قبل الإقدام والحركة ; فأما إذا تحرك بعد التقدير والتدبير – في حدود علمه وفي حدود أمر الله ونهيه – فكل ما يقع من النتائج فهو يتلقاه بالطمأنينة والرضى والتسليم; موقناً أنه وقع وفقاً لقدر الله وتدبيره وحكمته; وأنه لم يكن بد أن يقع كما وقع; ولو أنه هو قدم أسبابه بفعله! . . توازن بين العمل والتسليم وبين الإيجابية والتوكل يستقيم عليه الخطو ويستريح عليه الضمير . . فأما الذي يفرغ قلبه من العقيدة في الله على هذه الصورة المستقيمة فهو أبداً مستطار أبداً في قلق ! أبداً في « لو » و « لولا » و « يا ليت » و « وا أسفاه »!”

  هل غير القرآن موازينك، فسموت على موازين الأرض في الأشياء والأشخاص والأحداث، ووزنت بميزان السماء الذي لا يخيب … كسحرة فرعون الذين كانوا يطلبون الأجر منه ( أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ) ثم باعوا دنياهم كلها لله وقالوا له : ( فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) ؟

  ” وفي هذا الكلام من السحرة دليل على أنه ينبغي للعاقل أن يوازن بين لذات الدنيا ولذات الآخرة وبين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ” ” إنها لمسة الإيمان في القلوب التي كانت منذ لحظة تعنو لفرعون وتعد القربى منه مغنماً يتسابق إليه المتسابقون . فإذا هي بعد لحظة تواجهه في قوة ، وترخص ملكه وزخرفه وجاهه وسلطانه :

{ قالوا : لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا . . } فهي علينا أعز وأغلى وهو جل شأنه أكبر وأعلى . { فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ } ودونك وما تملكه لنا في الأرض . { إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } . فسلطانك مقيد بها ، وما لك من سلطان علينا في غيرها . وما أقصر الحياة الدنيا ، وما أهون الحياة الدنيا . وما تملكه لنا من عذاب أيسر من أن يخشاه قلب يتصل بالله ، ويأمل في الحياة الخالدة أبداً . { إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ } مما كنت تكلفنا به فلا نملك لك عصياناً؛ فلعل بإيماننا بربنا يغفر لنا خطايانا { وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } خير قسمة وجواراً ، وأبقى مغنماً وجزاء . إن كنت تهددنا بمن هو أشد وأبقى ..”

هل غير القرآن جهة حبك ، وشكّل أخلاقك، فغلب حبك لله حتى صار أول أوصافك، وصار موجها لأخلاقك مع الناس … كمن يأتي الله بهم ( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ) ؟

فإن “لله عبادا مخلصين، ورجالا صادقين، قد تكفل الرحمن الرحيم بهدايتهم، ووعد بالإتيان بهم، وأنهم أكمل الخلق أوصافا، وأقواهم نفوسا، وأحسنهم أخلاقا، أجلُّ صفاتهم أن الله { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } فإن محبة الله للعبد هي أجل نعمة أنعم بها عليه، وأفضل فضيلة، تفضل الله بها عليه، وإذا أحب الله عبدا يسر له الأسباب، وهون عليه كل عسير، ووفقه لفعل الخيرات وترك المنكرات، وأقبل بقلوب عباده إليه بالمحبة والوداد…

ومن صفاتهم أنهم { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } فهم للمؤمنين أذلة من محبتهم لهم، ونصحهم لهم، ولينهم ورفقهم ورأفتهم، ورحمتهم بهم وسهولة جانبهم، وقرب الشيء الذي يطلب منهم وعلى الكافرين بالله، المعاندين لآياته، المكذبين لرسله – أعزة، قد اجتمعت هممهم وعزائمهم على معاداتهم، وبذلوا جهدهم في كل سبب يحصل به الانتصار عليهم، قال تعالى: { وَأَعِدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُمْ مِن قُوَّةٍ وَمِن رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } وقال تعالى: { أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } فالغلظة والشدة على أعداء الله مما يقرب العبد إلى الله، ويوافق العبد ربه في سخطه عليهم، ولا تمنع الغلظة عليهم والشدة دعوتهم إلى الدين الإسلامي بالتي هي أحسن. فتجتمع الغلظة عليهم، واللين في دعوتهم، وكلا الأمرين من مصلحتهم ونفعه عائد إليهم.

{ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } بأموالهم وأنفسهم، بأقوالهم وأفعالهم. { وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ } بل يقدمون رضا ربهم والخوف من لومه على لوم المخلوقين، وهذا يدل على قوة هممهم وعزائمهم، فإن ضعيف القلب ضعيف الهمة، تنتقض عزيمته عند لوم اللائمين، وتفتر قوته عند عذل العاذلين. وفي قلوبهم تعبد لغير الله، بحسب ما فيها من مراعاة الخلق وتقديم رضاهم ولومهم على أمر الله، فلا يسلم القلب من التعبد لغير الله، حتى لا يخاف في الله لومة لائم.”

فهذه الآيات “تقرر صفة المسلم الذي يختاره الله لدينه ، ويمنحه هذا الفضل العظيم في اختياره لهذا الدور الكبير”

“إن هذا الاختيار للنهوض بهذا الأمر هو مجرد فضل الله ومنته فمن شاء أن يرفض هذا الفضل وأن يحرم نفسه هذه المنة فهو وذاك والله غنى عنه وعن العالمين والله يختار من عباده من يعلم أنه أهل لذلك الفضل العظيم.

والصورة التي يرسمها للعصبة المختارة هنا صورة واضحة السمات قوية الملامح وضيئة جذابة حبيبة للقلوب”.

فيا ترى .. هل وصلنا بالقرآن إلى الصفات المذكورة فيه ؟!..

4- ليس سحرا ولكنه عمل

  إذا كنا لما نصل إلى صفات أهل القرآن السابقة ، مع أننا نرى أن لنا تلاوة أو حفظا للقرآن ، فلنعلم أن المشكلة فينا وفي أسلوب تعاملنا مع القرآن ، لا في القرآن . أتدري لماذا ؟!..

  لأن القرآن ليس سحرا يقهرك على أن تكون إنسانا آخر، فلا تنتظر تغيرا مفاجئا بمجرد تلاوة أو حفظ ونحوهما، بل لابد من عمل ، روحه استلهام الفضل الرباني، وقوامه أخذ بالأسباب الشرعية …

  فقد سمع أهل مكة الأوائل القرآن من فم النبي صلى  الله عليه وسلم، ثم كفر منهم من كفر، وقاتل ضد هذا الدين من قاتل، وصد عن الإيمان بالوحي من صد، ثم مات عدد غير قليل ولم يتغيروا إلا إلى الأسوء، منهم أبوجهل وزمرته .. ولم ينتفعوا بالقرآن …

  وبما أن القرآن واحد، والآثار مختلفة، فلا بد أن يكون مرد ذلك إلى صفات المتلقين للقرآن، وتنوع ما أخذوا به من أسباب …

 قال – تعالى -: ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۖ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا ۘ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ) فالمثل الواحد يكون له أثران : هداية وإضلال … ولكل أسباب … فإن سبب الإضلال الخروج عن طاعة رب العالمين، بالاستكبار، أو بتغليب محبة الأهواء، أو بنحو ذلك …

 ولهذا كانت ” الأمثال مع إيضاحها للحق يهدي بها الله قوماً، ويضل بها قوماً آخرين ” والله قد ” ذكر حكمته في إضلال من يضلهم وأن ذلك عدل منه – تعالى – فقال: { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ } أي: الخارجين عن طاعة الله; المعاندين لرسل الله; الذين صار الفسق وصفهم; فلا يبغون به بدلا فاقتضت حكمته تعالى إضلالهم لعدم صلاحيتهم للهدى، كما اقتضت حكمته وفضله هداية من اتصف بالإيمان وتحلى بالأعمال الصالحة.”

فكيف أتغير بالقرآن ؟

  إن التغير بالقرآن – على الوجه الذي بينا – رحلة عمل، ملؤها الأمل، ولها أسباب مبينة في الوحي، هاكم أصولها السبعة … فمن أخذ بها كان أولى بها، وأشرقت عليه أنوارها …

1- كن صاحب قلب حي، أوكن حريصا على حياته

فإن ربنا – تبارك وتعالى – لما وعظ الناس موعظة بليغة في سورة [ق]، والتي كان النبي صلى  الله عليه وسلم يكثر أن يعظ بها من فوق منبره الشريف، حتى حفظها طائفة منهم بسبب ذلك .. لما وعظنا ربنا قال : ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ ) فعلمنا أن حياة القلب أول أصول الانتفاع بالقرآن …

فهذا الوصف إنما جاء للتخصيص، ولكل إنسان قلب ما، لكن القلب الذي يؤدي دوره هو القلب الموصوف بالحياة ، دون سواه، فكان هو المقصود، دون سواه …

قال ابن القيم: ” ذلك أن تمام التأثير لما كان موقوفا على مؤثر مقتض، ومحل قابل، وشرط لحصول الأثر، وانتفاء المانع الذي يمنع منه، تضمنت الآية بيان ذلك كله بأوجز لفظ، وأبينه، وأدله على المراد، فقوله: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى ) أشار إلى ما تقدم من أول السورة إلى ههنا، وهذا هو المؤثر، وقوله: ( لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ ) فهذا هو المحل القابل ، والمراد به : القلب الحي الذي يعقل عن الله، كما قال – تعالى – : ( إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْكَانَ حَيًّا  ) أي: حي القلب “.

أما إن لم تكن حياة القلب تامة، فليس أقل من الحرص على حياته، لأن الله لم يذكر منتفعا إلا أحد صنفين، وفرق بينهما بـ:[أو] وهي كما قال ابن تيمية: “إنما يثبت بها أحد الأمرين“. فالأول: ( الحي ). والثاني: ( الحريص على الحياة )، ولهذا فإنه ( أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ).

لذا قال السعدي : ” { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ } أي: قلب عظيم حي، ذكي، زكي، فهذا إذا ورد عليه شيء من آيات الله، تذكر بها، وانتفع، فارتفع وكذلك من ألقى سمعه إلى آيات الله، واستمعها، استماعًا يسترشد به، وقلبه { شَهِيدٌ } أي: حاضر، فهذا له أيضا ذكرى وموعظة، وشفاء وهدى.

وأما المعرض، الذي لم يلق سمعه إلى الآيات، فهذا لا تفيده شيئًا، لأنه لا قبول عنده، ولا تقتضي حكمة الله هداية من هذا وصفه ونعته. “

 وبذا صارت حياة القلب، أو الحرص على حياته .. هي الأصل الأول، لمن يريد أن يصنعه القرآن . ذلك أن القلب وإرادته هما – دائما – منطلق كل تغيير، وأساس كل إصلاح .

فمن خرج عن هذين الوصفين الحاصرين، لم ينتفع بالقرآن انتفاعا حقيقيا، يرفعه في الدنيا والآخرة ، و” إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما، ويضع به آخرين ” كما قال النبي

2- أقبل على الصلة بالقرآن

فالاستعداد والإرادة فقط لا يكفيان ليتغير الإنسان، بل لا بد من حسن الاتصال بالسبب الذي أرجو أن أتغير به ، لذا قال الله – عز وجل -: ( أو أَلْقَى السَّمْعَ  ) فمن لا يلقي سمعه، أو لا يقبل بعينه، أو لا يردد بلسانه … من لا يفعل شيئا من هذا، لا يعطي نفسه فرصة للتغير للأحسن …

فإن ” قوله: ( أو أَلْقَى السَّمْعَ ) أي: وجّه سمعه وأصغى حاسّة سمعه إلى ما يقال له, وهذا شرط التأثّر بالكلام.” كما قال ابن القيم. فكان هذا أصلا ثانيا.

وهذه الصلة ، لابد أن تتسم بالاستمرار . دليل ذلك ما لا يخالف فيه مسلم، من أن قلب النبي صلى  الله عليه وسلم هو أكثر القلوب حياة وخيرية، ومع ذلك احتاج صلى  الله عليه وسلم أن تتنزل عليه آيات القرآن مفرقة، عبر حياته الرسالية كلها، لتتعامل مع مواقفها كلها، فتحصل ثمرتها الكبرى له صلى  الله عليه وسلم ابتداء، ولمن معه بالتبع، وقد ذكرنا الآية قبل: ( كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ).. ومن مثل النبي صلى  الله عليه وسلم ..؟! وإذا كانت هذه الحال وقت التنزيل ، فماذا نفعل وقد نزل القرآن الكريم كله ..؟!

إن مداومتك على الصلة بالقرآن ، تنفيذ لوصية النبي صلى  الله عليه وسلم : “اقرأ القرآن في شهر”. فكان السلف يعدون من ختمه في أكثر من شهر قد هجره ..!! وبالتالي لا يكون قد أقبل على القرآن كما ينبغي .. قال – تعالى – : ( وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا )  “ذلك أن المشركين كانوا لا يُصغُون للقرآن ولا يسمعونه ، كما قال تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [ فصلت : 26] وكانوا إذا تلي عليهم القرآن أكثروا اللغط والكلام في غيره، حتى لا يسمعوه. فهذا من هجرانه،

وترك علمه وحفظه أيضا من هجرانه،

وترك الإيمان به وتصديقه من هجرانه،

وترك تدبره وتفهمه من هجرانه،

وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه،

والعدولُ عنه إلى غيره – من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره – من هجرانه”

فلا شك أن الإنسان يخسر بهذا الهجر، حتى يشكو لذلك النبي صلى  الله عليه وسلم …

قال القاسمي في تفسيره : “الآية ، وإن كانت في المشركين ، وإعراضُهم هو عدم إيمانهم ، إلا أن نظمها الكريم مما يرهب عموم المعرضين عن العمل به ، والأخذ بآدابه . الذي هو حقيقة الهجر . لأن الناس إنما تعبدوا منه بذلك . إذ لا تؤثر تلاوته إلا لمن تدبرها . ولا يتدبرها إلا من يقوم بها ويتمسك بأحكامها .

ومن فوائد الإمام ابن القيم رحمه الله . قوله في هذه الآية : هجر القرآن أنواع :

أحدها : هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه .

والثاني : هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه ، وإن قرأه وآمن به .

والثالث : هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه ، واعتقاد أنه لا يفيد اليقين ، وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم .

والرابع : هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها . فيطلب شفاء دائه من غيره ، ويهجر التداوي به .

قال: وكل هذا داخل في هذه الآية ، وإن كان بعض الهجر أهون من بعض . انتهى.

وفي ” الإكليل ” : إن في الآية إشارة إلى التحذير من هجر المصحف وعدم تعاهده بالقراءة فيه . وكذا قال أبو السعود : فيه تلويح بأن من حق المؤمن أن يكون كثير التعاهد للقرآن ، كيلا يندرج تحت ظاهر النظم الكريم . ثم قال : وفيه من التحذير ما لا يخفى . فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، إذا شكوا إلى الله تعالى قومهم ، عجل لهم العذاب ولم يُنظروا.”

 3- أحضر قلبك، واحذر الغفلة

وهذا هو الأصل الثالث، إذ ليس كل تال أو مستمع حاضرا بقلبه. والشيطان إذا فشل في أن يصرف جوارحك عن القرآن مرة أو مرات، فلتتأكد أنه سيكون أشد حرصا على أن يصرف وعيك وفهمك وشعورك، حتى يحجب عنك أثر القرآن ما استطاع. أليس هو القائل : ( لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ) “أي: لألزمن الصراط ولأسعى غاية جهدي على صد الناس عنه وعدم سلوكهم إياه.”..؟!

  وإذا كان القلب هو مركز قيادة الإنسان، كما قال النبي صلى  الله عليه وسلم : “ألا وإن في الجسد مضغة ، إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب” فإن المعركة الكبرى إنما تدور حول مركز القيادة هذا …

  والشيطان يجلب في هذه المعركة بخيله ورجله، فيذكر الإنسان بما نسي، ويصور له ما يتمنى، ويسبح به في بحار من الخيال لا ساحل لها، ويحضر في خاطره من يحب ومن يكره، إلى آخر ما في جعبته من الشواغل … ثم قد يرضي ضمير الإنسان بعدّ الصفحات التي جاوزها .. دون أن يقف قلبه مع فكرة فيها، ودون أن يهتز وجدانه بشعور مما تثيره …

  قال ابن القيم: “وقوله: ( وَهُوَ شَهِيدٌ ) أي: شاهد القلب، حاضر غير غائب. قال ابن قتيبة: “استمع كتاب الله وهو شاهد القلب والفهم, ليس بغافل ولا ساه”. وهو إشارة إلى المانع من حصول التأثير, وهو سهو القلب, وغيبته عن تعقّل ما يقال له, والنظر فيه وتأمّله. فإذا حصل المؤثر وهو القرآن, والمحل القابل وهو القلب الحي, ووجد الشرط وهو الإصغاء, وانتفى المانع وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب, وانصرافه عنه إلى شيء آخر, حصل الأثر”

  فالذي يسمع ما جاءت به الرسل ـ سمعًا يعقل به ما قالوه ـ ينجو . وإلا فالسمع بلا عقل لا ينفعه، كما قال : { وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ } [ محمد : 16 ] ، وقال : { وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ } [ يونس : 42 ] ، وقال : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [ يوسف : 2 ]”

  لذا جاءت الوصية الربانية في قوله – تعالى -: ( إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا ) فإن “ناشئة الليل هي: ساعاته وأوقاته، وكل ساعة منه تسمى ناشئة، وهي الآنات. والمقصود أن قيام الليل هو أشد مواطأة بين القلب واللسان، وأجمع على التلاوة؛ ولهذا قال: { هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا } أي: أجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهمها من قيام النهار؛ لأنه وقت انتشار الناس ولَغَط الأصوات وأوقات المعاش.” كما قال ابن كثير .

  فهي “أشد مواطأة للقلب وأقوم قيلا في التلاوة والتدبر والتأمل وبالتالي بالتأثر ففيه إرشاد إلى ما يقابل هذا الثقل فيما سيلقى عليه من القول فهو بمثابة التوجيه إلى ما يتزود به لتحمل ثقل أعباء الدعوة والرسالة.”

 وهي كما قررنا “أقرب إلى تحصيل مقصود القرآن، يتواطأ على القرآن القلب واللسان، وتقل الشواغل، ويفهم ما يقول، ويستقيم له أمره، وهذا بخلاف النهار، فإنه لا يحصل به هذا المقصود ، ولهذا قال: { إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا } أي: ترددا على حوائجك ومعاشك، يوجب اشتغال القلب وعدم تفرغه التفرغ التام.”

  فمقصود القرآن لا يكون إلا بالتأثر الناشئ عن التدبر ، وهذا لا يتأتى إلا بحضور القلب مع القراءة ، والانقطاع عن الشواغل والمشوشات ، وبهذا كان الليل أجمع للقلب ، فحثنا الله – عز وجل – على الصلاة بالقرآن فيه حتى يحسن انتفاعنا به ، ونتغير به إلى الأفضل .

4- كن خائفا من الله – تعالى –

لأن الإقبال على القرآن بالخوف من الله، هو الذي يفتح مغاليق النفس العصية، إذ يجعل الحس مرهفا قوي الانفعال. ويزيل عددا من موانع الهداية، كالرضى بالحال، والكسل، والاستكبار، ونحوها . فهو الأصل الرابع .

  لهذا قال – تعالى – عن القرآن: ( هدى للمتقين ) ففي هذه الآية “خصّت الهداية للمتَّقين. كما قال: { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } [فصلت: 44]. { وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا } [الإسراء: 82] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على اختصاص المؤمنين بالنفع بالقرآن؛ لأنه هو في نفسه هدى، ولكن لا يناله إلا الأبرار، كما قال: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } [يونس: 57] .

  و … عن ابن عباس: { لِلْمُتَّقِينَ } أي: الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى، ويرجون رحمته في التصديق بما جاء به …” كما ذكر ابن كثير.

  بل إن “من مفهوم الآية – أعني مفهوم المخالفة المعروف بدليل الخطاب- أن غير المتقين ليس هذا القرآن هدى لهم”فإن” هذه الصفة وهي خشية الله بالغيب والإيمان بالغيب أساس عمل المسلم كله ومعاملاته لأنه بإيمانه بالغيب سيعمل كل خير طمعا في ثواب الله كما في مستهل المصحف {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [2/1-3] “

  “فالقرآن لم يزل ولن يزال هدى للمتقين ، فإن جميع أنواع هدايته نفعت المتقين في سائر مراتب التقوى ، وفي سائر أزمانه وأزمانهم على حسب حرصهم ومبالغ علمهم واختلاف مطالبهم ، فمن منتفع بهديه في الدين ، ومن منتفع في السياسة وتدبير أمور الأمة ، ومن منتفع به في الأخلاق والفضائل ، ومن منتفع به في التشريع والتفقه في الدين ، وكل أولئك من المتقين وانتفاعهم به على حسب مبالغ تقواهم … ولا يزال أهل العلم والصلاح يتسابقون في التحصيل على أوفر ما يستطيعون من الاهتداء بالقرآن.”

  قال القرطبي “قوله تعالى: (وَإِنَّهُ) يعني القرآن ( لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ )أي للخائفين الذين يخشون الله.” “فالتقوى في القلب هي التي تؤهله للانتفاع بهذا الكتاب . هي التي تفتح مغاليق القلب له فيدخل ويؤدي دوره هناك . هي التي تهيء لهذا القلب أن يلتقط وأن يتلقى وأن يستجيب .

  لا بد لمن يريد أن يجد الهدى في القرآن أن يجيء إليه بقلب سليم . بقلب خالص . ثم أن يجيء إليه بقلب يخشى ويتوقى ، ويحذر أن يكون على ضلالة ، أو أن تستهويه ضلالة . . وعندئذ يتفتح القرآن عن أسراره وأنواره ، ويسكبها في هذا القلب الذي جاء إليه متقياً ، خائفاً ، حساساً ، مهيأ للتلقي . . ورد أن عمر ابن الخطاب – رضي الله عنه – سأل أبي بن كعب عن التقوى فقال له : أما سلكت طريقاً ذا شوك؟ قال بلى! قال : فما عملت؟ قال : شمرت واجتهدت . قال : فذلك التقوى . .

  فذلك التقوى . . حساسية في الضمير ، وشفافية في الشعور ، وخشية مستمرة ، وحذر دائم ، وتوق لأشواك الطريق . . طريق الحياة . . الذي تتجاذبه أشواك الرغائب والشهوات ، وأشواك المطامع والمطامح ، وأشواك المخاوف والهواجس ، وأشواك الرجاء الكاذب فيمن لا يملك إجابة رجاء ، والخوف الكاذب ممن لا يملك نفعاً ولا ضراً . وعشرات غيرها من الأشواك!”

  ألم يقل النبي صلى  الله عليه وسلم: “من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة”..؟ فكيف سيتحرك ويتغير من تلفه أغطية الغفلة، بأوهام الأمن والراحة، إن لم يزعجه الخوف، ويوقظ حسه ..؟!

  وكيف لا يخاف من لا يحيط علما بنفسه، وبما حوله ؟!

  وكيف لا يخاف من يعجز عن جلب المصالح وحفظها ؟!

  وكيف لا يخاف من تتناوشه المخاوف والآلام التي لا يقدر على دفعها ؟!

  وكيف لا يخاف من ينتظر مستقبلا مجهولا في الدنيا قبل الآخرة ؟!

  بل كيف لا يخاف من رأى الناس يموتون ويفارقون دنياهم لأخرى ؟!

  وكيف لا يخاف من علم أن وراء ذلك حسابا .. ؟!

              فلو أنا إذا متنا تركنا     لكان الموت راحة كل حي

              ولكـنا إذا متنا بعـثـنا     فـنـسأل بعـده عـن كل شي .. .

5- تأكد من أنه خطاب شخصي لك

  إذ هو كذلك على الحقيقة … فقوله – تعالى -: ( كِتَاب أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْك ) ليس موجها للنبي صلى  الله عليه وسلم فقط، “لأن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خطاب لأمته” بالتبع، فهو موجه لكل واحد منا.

  وإنما النبي صلى  الله عليه وسلم مبلغ لنا، كما قال – تعالى – على لسان رسوله – صلى  الله عليه وسلم : ( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) ” فكل من بلغه القرآن من إنسي وجني فقد أنذره الرسول به . والإنذار هو : الإعلام بالمخَوف، والمخوف : هو العذاب ينزل بمن عصى أمره ونهيه . فقد أعلم كل من وصل إليه القرآن أنه إن لم يطعه وإلا عذبه الله تعالى، وأنه إن أطاعه أكرمه الله تعالى .”

   فكل من بلغه القرآن، منذر بالقرآن …

  وكيف أكون منذرا به، إن لم يكن يحدثني عن حالي، أو عما يمكن أن يكون حالا لي ..؟!

  لذا قال ابن القيم: “إذا أردت الانتفاع بالقرآن، فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه, وألق سمعك, واحضر حضور من يخاطبه به من تكلّم به – سبحانه – منه إليه, فإنّه خطاب منه لك, على لسان رسوله”. وبدون ذلك لا تنتفع …

  فهو خطاب لك ممن يعلم إمكاناتك،

  وهو خطاب لك ممن يقدّر ما يحيط بك،

  وهو خطاب لك ممن لا تخفى عليه خبايا نفسك،

  وهو خطاب لك ممن يملك ويدبر أمرك، وأمر الخلق جميعا،

  وهو – فوق ذلك كله – خطاب لك ممن يحب الخير لك …

  ألم تسمع قوله – تعالى – : ( يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا ) ..

  وفيها ” يخبر تعالى بمنته العظيمة ومنحته الجسيمة، وحسن تربيته لعباده المؤمنين وسهولة دينه فقال: { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } أي: جميع ما تحتاجون إلى بيانه من الحق والباطل، والحلال والحرام، { وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } أي: الذين أنعم الله عليهم من النبيين وأتباعهم، في سيرهم الحميدة، وأفعالهم السديدة، وشمائلهم الكاملة، وتوفيقهم التام. فلذلك نفذ ما أراده، ووضح لكم وبين بيانا كما بين لمن قبلكم، وهداكم هداية عظيمة في العلم والعمل.

  { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } أي: يلطف لكم في أحوالكم وما شرعه لكم حتى تمكنوا من الوقوف على ما حده الله، والاكتفاء بما أحله فتقل ذنوبكم بسبب ما يسر الله عليكم فهذا من توبته على عباده.

  ومن توبته عليهم أنهم إذا أذنبوا فتح لهم أبواب الرحمة وأوزع قلوبهم الإنابة إليه، والتذلل بين يديه ثم يتوب عليهم بقبول ما وفقهم له. فله الحمد والشكر على ذلك.

  وقوله: { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي: كامل الحكمة، فمن علمه أن علمكم ما لم تكونوا تعلمون، ومنها هذه الأشياء والحدود. ومن حكمته أنه يتوب على من اقتضت حكمته ورحمته التوبة عليه، ويخذل من اقتضت حكمته وعدله من لا يصلح للتوبة.

  { وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفًا } .

  وقوله: { وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } أي: توبة تلم شعثكم، وتجمع متفرقكم، وتقرب بعيدكم.

  { وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ } أي: يميلون معها حيث مالت ويقدمونها على ما فيه رضا محبوبهم، ويعبدون أهواءهم، من أصناف الكفرة والعاصين، المقدمين لأهوائهم على طاعة ربهم، فهؤلاء يريدون { أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا } أي: [أن] تنحرفوا عن الصراط المستقيم إلى صراط المغضوب عليهم والضالين.

  يريدون أن يصرفوكم عن طاعة الرحمن إلى طاعة الشيطان، وعن التزام حدود من السعادة كلها في امتثال أوامره، إلى مَنْ الشقاوةُ كلها في اتباعه. فإذا عرفتم أن الله تعالى يأمركم بما فيه صلاحكم وفلاحكم وسعادتكم، وأن هؤلاء المتبعين لشهواتهم يأمرونكم بما فيه غاية الخسار والشقاء، فاختاروا لأنفسكم أوْلى الداعيين، وتخيّروا أحسن الطريقتين.

  { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } أي: بسهولة ما أمركم به و [ما] نهاكم عنه، ثم مع حصول المشقة في بعض الشرائع أباح لكم ما تقتضيه حاجتكم، كالميتة والدم ونحوهما للمضطر، وكتزوج الأمة للحر بتلك الشروط السابقة. وذلك لرحمته التامة وإحسانه الشامل، وعلمه وحكمته بضعف الإنسان من جميع الوجوه، ضعف البنية، وضعف الإرادة، وضعف العزيمة، وضعف الإيمان، وضعف الصبر، فناسب ذلك أن يخفف الله عنه، ما يضعف عنه وما لا يطيقه إيمانه وصبره وقوته.”

  ألم تسمع قوله – تعالى – لك : ( وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ۖ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) .. وإنما هذا “لكمال إحسانه بهم، وعلمه أن الكفر يشقيهم شقاوة لا يسعدون بعدها، ولأنه خلقهم لعبادته، فهي الغاية التي خلق لها الخلق، فلا يرضى أن يدعوا ما خلقهم لأجله “.

  فكيف ستقرأ كتابا قد كتبه من هذه صفته، ووجهه لك بصورة شخصية، إكراما وإحسانا … مع كمال علم وحكمة ..؟!

6- اعمل أكثر .. تنتفع أكثر

فالإنسان تزيد مساحة فهمه وشعوره، كلما ازدادت مساحة ممارسته الواقعية للأعمال الإيمانية. وهذا الأصل السادس تفسير ودعوة …

  تفسير لحال مشهودة، من أن من يبدأ رحلة التغير بالقرآن، تكون انفعالاته الكبرى مع أنواع محدودة من آياته، كآيات الموت، و آيات العذاب، ونحوهما مما يناسب أفكار ومشاعر الانطلاقة الأولى .. ثم لا تزال هذه الأنواع من الآيات المؤثرة تزداد، كلما كثرت وتنوعت الممارسات الإيمانية في حياة المسلم، فينفعل بآيات الود والعتاب، وآيات الدعوة والصبر والجهاد، وآيات الوعد والدعاء، ونحوها مما يتلاقى مع أفكار ومشاعر المرحلة الإيمانية، والتي يسير فيها العبد إلى ربه – تعالى – …

  وتفسير للتفاوت الذي ينال الواحد منا، عبر رحلته القرآنية .. فختمة للقرآن في حال ازدهار للواقع الإيماني، تكون مفعمة بالأحاسيس، عميقة في تأثيرها الجذري،  هائلة في ثمرتها التغييرية … وأخرى في حال انكماش للواقع الإيماني، تكون شكلية، فقيرة في مشاعرها، بالكاد يوصل فيها إلى أواخر السور أو الأجزاء، مع ثمرة باهتة، متناسبة مع واقع الإنسان …

  ودعوة إلى العمل بالقرآن، فهي الحياة ، لتزداد بركة نفعه لنا، وتتفتح أسراره أمام عيوننا، قبل معاجلة العقوبة الربانية، بحرمان الرتب الإيمانية، ومنع الإنسان من هذا العلم النافع، ثم يكون ما بعد ذلك أشد وأقسى …

  قال – تعالى -:  ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) .. “يأمر تعالى عباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان منهم وهو الاستجابة للّه وللرسول، أي: الانقياد لما أمرا به والمبادرة إلى ذلك والدعوة إليه، والاجتناب لما نهيا عنه، والانكفاف عنه والنهي عنه.

  وقوله: { إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } وصف ملازم لكل ما دعا اللّه ورسوله إليه، وبيان لفائدته وحكمته، فإن حياة القلب والروح بعبودية اللّه تعالى ولزوم طاعته وطاعة رسوله على الدوام.”

  ” إن هذا الدين منهج حياة كاملة ، لا مجرد عقيدة مستسرة . منهج واقعي تنمو الحياة في ظله وتترقى . ومن ثم هو دعوة إلى الحياة في كل صورها وأشكالها . وفي كل مجالاتها ودلالاتها . والتعبير القرآني يجمل هذا كله في كلمات قليلة موحية:

  { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } .

   استجيبوا له طائعين مختارين؛ وإن كان الله – سبحانه – قادراً على قهركم على الهدى لو أراد :

  { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } . .

  ويا لها من صورة رهيبة مخيفة للقدرة القاهرة اللطيفة . . { يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } فيفصل بينه وبين قلبه؛ ويستحوذ على هذا القلب ويحتجزه ، ويصرفه كيف شاء ، ويقلبه كما يريد . وصاحبه لا يملك منه شيئاً وهو قلبه الذي بين جنبيه!

إنها صورة رهيبة حقا؛ يتمثلها القلب في النص القرآني ، ولكن التعبير البشري يعجز عن تصوير إيقاعها في هذا القلب ، ووصف هذا الإيقاع في العصب والحس!

إنها صورة تستوجب اليقظة الدائمة ، والحذر الدائم ، والاحتياط الدائم . اليقظة لخلجات القلب وخفقاته ولفتاته؛ والحذر من كل هاجسة فيه وكل ميل مخافة أن يكون انزلاقا والاحتياط الدائم للمزالق والهواتف والهواجس . . والتعلق الدائم بالله – سبحانه – مخافة أن يقلب هذا القلب في سهوة من سهواته ، أو غفلة من غفلاته ، أو دفعة من دفعاته . .

  ولقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو رسول الله المعصوم يكثر من دعاء ربه بتثبيت القلب فعن “شهر بن حوشب ، قال : قلت لأم سلمة : يا أم المؤمنين ما كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك ؟ قالت : كان أكثر دعائه : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ” ” قالت : فقلت : يا رسول الله ما لأكثر دعائك يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ؟ قال : ” ” يا أم سلمة إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله ، فمن شاء أقام ، ومن شاء أزاغ » . فكيف بالناس ، وهم غير مرسلين ولا معصومين؟!

  إنها صورة تهز القلب حقاً ، ويجد لها المؤمن رجفة في كيانه حين يخلو إليها لحظات ، ناظرا إلى قلبه الذي بين جنبيه ، وهو في قبضة القاهر الجبار ، وهو لا يملك منه شيئا ، وإن كان يحمله بين جنبيه ويسير!

صورة يعرضها على الذين آمنوا وهو يناديهم :

  { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } . .

  ليقول لهم : إن الله قادر على أن يقهركم على الهدى – لو كان يريد – وعلى الاستجابة التي يدعوكم إليها هذه الدعوة ، ولكنه – سبحانه – يكرمكم؛ فيدعوكم لتستجيبواعن طواعية تنالون عليها الأجر؛ وعن إرادة تعلو بها إنسانيتكم وترتفع إلى مستوى الأمانة التي ناطها الله بهذا الخلق المسمى بالإنسان . . أمانة الهداية المختارة؛ وأمانة الخلافة الواعية ، وأمانة الإرادة المتصرفة عن قصد ومعرفة .

  { وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } . .

  فقلوبكم بين يديه . وأنتم بعد ذلك محشورون إليه . فما لكم منه مفر . لا في دنيا ولا في آخرة . وهو مع هذا يدعوكم لتستجيبوا استجابة الحر المأجور”

 وفي ذلك تطبيق لميزان العدل الرباني : ( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) ؟!.. فإن من ظن بالله الحكيم الخبير، أنه يساوي بين الصالح المصلح، والمفسد الفاجر، فقد ظن ظناً قبيحاً جديراً بالإنكار.

وقد بين جل وعلا هذا المعنى، في غير هذا الموضع، وذم حكم من يحكم به”.

 لأنه ” من عدله وحكمته لا يساوي بين المؤمن والكافر”. “فالشارع حكيم لا يفرق بين متماثلين إلا لاختصاص أحدهما بما يوجب الاختصاص، ولا يسوي بين مختلفين غير متساويين، بل قد أنكر ـ سبحانه ـ على من نسبه إلى ذلك وقبح من يحكم بذلك”.

7- اشكر .. لتنال المزيد

   إذ القاعدة الربانية، أنه ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) ..

  فشكر النعمة واجب .. وهذا هو الأصل السابع …

  وشكرها بالقلب: الاعتراف بأنها محض إحسان من الغني الكريم، دون استحقاق ولا مكافأة من العبد المسكين …

  وشكرها باللسان: ترديد ذكرها منسوبة إلى واهبها – سبحانه -، والثناء الجميل عليه بها، بدلا من الإسناد للأسباب، والاكتفاء بالثناء على المخلوقين …

  وشكرها بالجوارح: عمل بمقتضاها في مرضاة واهبها، وإتباع لإحسانه إلينا بإحساننا إلى عباده. إذ الأصل أن زكاة الشيء من جنسه، وأنه بحسب العطية تكون المسئولية …

  فما أبأس ذلك الضائع، الذي لا يعرف لله نعمة عليه، إلا أكلة يتناولها، أو شربة يستسيغها، أوثوبا يلبسه، أو دابة يركبها، أو زوجا وأولادا ومالا … إلى آخر نعم الدنيا، والتي يعطيها الله لمن يحب، ومن لا يحب …

  إن النعمة العظمى هي نعمة الدين .. ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) .. و” هذه أكبر نعم الله ، عز وجل، على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم ، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم، صلوات الله وسلامه عليه؛ ولهذا جعله الله خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خُلْف “

  ” فأصل النعمة، الهداية لدينه، بإرسال رسوله، وإنزال كتابه، ثم بعد ذلك، النعم المتممات لهذا الأصل، لا تعد كثرة، ولا تحصر، منذ بعث الله رسوله إلى أن قرب رحيله من الدنيا، وقد أعطاه الله من الأحوال والنعم، وأعطى أمته، ما أتم به نعمته عليه وعليهم، وأنزل الله عليه: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا } .

  فلله الحمد على فضله، الذي لا نبلغ له عدا، فضلا عن القيام بشكره”

  وبهذه النعمة الكبرى تكون المنة .. ( بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )..    “فإن نفع ذلك إنما يعود عليكم، ولله المنة عليكم فيه”. “فكما أنه تعالى يمن عليهم بالخلق والرزق، والنعم الظاهرة والباطنة، فمنته عليهم بهدايتهم إلى الإسلام، ومنته عليهم بالإيمان، أعظم من كل شيء “.

  وماذا كنت قبل هذه النعمة ؟!.. ( مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ) … “أي: ما كنت تعلم ما هو هذا الكتاب الذي هو القرآن العظيم، حتى علمتكه، وما كنت تدري ما الإيمان الذي هو تفاصيل هذا الدين الإسلامي، حتى علمتكه.”

  فمن شكر نعمة القرآن .. زاده الله – عز وجل –  من أنواره  .. وفتح له من أسراره .. أزاح به همومه وغمومه .. وفرج عنه به كروبه .. وصنعه في الدنيا على ما يحب –  تعالى -… وظل دوما في ارتقاء .. قال  النبي صلى  الله عليه وسلم : ” يقال لصاحب القرآن : اقرأ ، وارتق ، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا ، فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها ” …

  فيا أخي الحبيب: .. اقرأ .. وارتق …

  ويا أخي الحبيب: .. احرص على أن يصنعك القرآن …

  ويا أخي الحبيب: .. كن إنسانا قرآنيا … ذا قلب حي ، أو على الأقل ذا إرادة لحياته .. ثم أقبل على سبب الحياة ، وهو القرآن .. ولا تكتف بإقبال البدن ، بل أحضر قلبك .. وألزم قلبك حال الخوف ، إذ ليس كل حاضر القلب خائفا ..ثم أنزل كلمات الله على نفسك ، فإنها لك أنت أنزلت .. واعمل بالقرآن ، تزدد فهما وشعورا .. ثم أدم الشكر لله ، يدم عطاؤه لك ، ويتضاعف ..


التعليقات