طبائع الاستبداد

لم تكن الفلسفات اليونانية الأولى غافلة عما تفعل وتقول حين أضفت على الحاكم لقب “الطاغية” كمرادف لكلمة ملك حتى أنهم اطردوا تسمية “عصر طغاة الأغريق” على نظام الحكم الإقطاعي الذي نشأ من تركز السلطة والثروة في يد حفنة متجبرة منم الملوك لمدة قرن ونصف القرن، كما لم يكن عبد الرحمن الكواكبي مجازفاً في صياغته لأطروحته الرائعة “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” التي أصل فيها لعلاقة الحاكم بالمحكومين؛ وفتح الملفات المحظورة والمحرمة بولوج هذا الباب؛ إذ اعتبر أن تخلف أمتنا في ذلك الحين ـ وخاصة في العلوم الدستورية ـ إنما هو تبع في الحقيقة لاستبداد الحاكم ورغبته في السيطرة على الأمة أو دويلاتها واستمراره في استعباد العباد، وذلك رغم سبق شعوبنا وحضارتها المتعاقبة في صياغة مفهوم الدولة المركزية وتأسيس الحكم الرشيد، ورغم ما أنتجته الحضارة الإسلامية فيما بعد ذلك من أنموذج مبهر للدولة شبه الحديثة والتي استفادت من حضارات الفرس والروم المعاصرة لها لكنه يتفوق عليها من حيث البناء الهيكلي والهدف والغاية والمفهوم؛ وذلك في وقت مبكر جداً وفي عهد أمير المؤمنين كعمر بن الخطاب رضي الله عنه وبما يعكس توسع الدولة وحاجتها الملحة إلى هذا التنظيم؛ كما يكرس حالة الأمة والدولة لا الحاكم والفرد.

 اكتشف الكواكبي أن المستبدين في الحقيقة لا يستطيعون الاستبداد إلا إذا صادفوا أمة تهوى الظلم وتعشق الذلة

لكن العجيب حقاً وما لعله لم يعنه الكواكبي رحمه الله بأطروحته تلك وإن كانت قد أنتجته حقاً كإفراز طبيعي لعقلية مستنيرة ومحاولة جادة للوصول للحقيقة، هو دراسته وتجذيره حقاً لتماهي المحكومين مع تلكم الحقيقة الأليمة واستسلامهم لها بل وربما استمتاعهم بالعيش فيها والالتذاذ بمقارفة خطاياها؛ فقد اكتشف الكواكبي أن المستبدين في الحقيقة لا يستطيعون الاستبداد إلا إذا صادفوا أمة تهوى الظلم وتعشق الذلة، بل ربما حرصوا على صناعة أجيال العبودية صناعة بالترهيب أو الترغيب حتى تستطيب لهم أعنافق الأمم، والأدهى من ذلك أن أولئك المستبدين يطبعون المستبد بهم بطبائعهم، ولعل ذلك مردود لما ارتكز في الفطرة البشرية من حب الغلبة والاستعلاء والتعصب للذات أو الكينونة الشخصية، فيمارس المغلوب المستضعف والذليل المستبد به على غيره أو من هو أضعف منه نفس الممارسات المستبدة والأساليب المستعبدة؛ إشباعاً لهذه الغريزة ربما من جانب وتفريغاً لحالة الصخب النفسي المكبوتة والجبانة أيضاً والتي لا يستطيع تفريغها في اتجاهها الصحيح، وأعجب ما في هذه الحالة المجتمعية أن أولئك الأذلاء المقهورين يتولد لديهم مع طول العهد اعتياداً للظلم وحباً للمهانة بحيث لو زال المطاغية أو انكشف غطاء الاستبداد أعادوه وأنتجوه مرة أخرى، نخلص من هذا أن المستبد إذن هو راعٍ لمجتمع من المستبدين أصلاً أو قائد لحفنة من الطغاة.

ولم تصل الأمم والشعوب المعاصرة والحديثة إلى حالة السلام المجتمعي أو العقد الاجتماعي وتنظيم العلاقة بين السلطة والأمة أو الحاكم ومؤسسات الدولة بيسر وسهولة وإنما خاضت في سبيل هذا صراعاً طويلاً كان طبيعياً أن يواكب تطورها المتسارع حينئذ وفي نفس الوقت الذي كانت تنهار فيه أمتنا وتتراجع أممياً في مصاف الحضارة، وفي سبيل هذا فقد دفعت تلك الأمم والشعوب كفاحاً مريراً ومخاضاً صعباً، كما ضفغطت على حكامها أو حتى ثارت عليهم حتى في تلك البلاد التي اتسمت مراحل التحول فيها بهدوء نسبي، فلم يصدر قانون “الماجنا كارتا” أو “العهد الأعظم” وهو أول وثيقة مدونة في انجلترا إلا بعد ثورة النخبة من النبلاء ورجال الكنيسة على الملك جون؛ لتتحرر الكنيسة من قبضته وتتحدد حقوق الملكية الإقطاعية، ثم عادت الكرة مرة أخرى بعد ما حوالي أربعة قرون لتثور الحرب الأهلية الطاحنة بعد الصدام العنيف بين الملك شارك والبرلمان الانجليزي وقد تكرر هذا الأمر مع الملك جيمس أيضاً فيما بعد.

ناهيك بالطبع عما حدث في الثورة الفرنسية الكبرى وما نجم عنها من إعلان حقوق الإنسان والذي كتب بالدماء ليصبح وثيقة عالمية تمثل مرجعاً للدساتير الحديثة.

ورغم انزعاجنا اللحظي الشديد كنتيجة طبيعية لكون جيلنا هو وقود هذه المرحلة وتلكم التحولات وما بذلناه فيها من دماء وتضحيات، إلا أنه كان من الواجب أن تنفض شعوبنا حالة الذلة والخوف، ومن الطبيعي جداً أن الوصول إلى هذه المرحلة يتطلب الكثير من الكفاح والدماء في حراك الشعوب نحو الحرية والكرامة؛ وانعتاقها من “عائلة الطغيان” إن جاز التعبير، والتي يتشكل أفرادها من الطاغية والمستبد والشمولي والثيوقراطي والشمولي والدكتاتوري والأوتوقراطي، وهو ما سنفصل فيه الحديث فيما بعد إن شاء الله.


التعليقات