كيف تكون وليا لله (2)؟

2. اركب .. سفينة العمل

الحمد لله رب العالمين …

اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك …

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم ، وعلى آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد .. اللهم بارك على محمد ، وعلى آل محمد ، كما باركت على إبراهيم ، وعلى آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد …

إخوتي الكرام ، التقينا في المرة الماضية ، مع المعلم الأول ، من معالم الطريق إلى ولاية الله – تبارك وتعالى – ، وكان عن الدخول على الله بالافتقار إليه وحده ، والتخلي عن كل سبب ، وقطع نظر القلب عما سوى الرب الكريم – سبحانه وتعالى – ،  بل نتصل بالله  – عز وجل -وحده ونرجو فضله وإحسانه ، ولكن …

لا.. للأمنيات الكاذبة

إلا أن الله – تبارك وتعالى – قد مضت حكمته  وجرت سنته في خلقه ، أن جعل للنتائج أسبابا ومقدمات تفضي إليها …

فنحن الآن مع المعلم الثاني ، وهو شديد الصلة بالمعلم الأول … فإن العبد وإن كان يعلم أنه  لا حول ولا قوة إلا بالله ، وأن العطاء لا يكون إلا من الله وحده ، مصداقا لقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ” إنما أنا قاسم وخازن، والله يعطي ” إلا أن الله – تبارك وتعالى – قد مضت حكمته  وجرت سنته في خلقه ، أن جعل للنتائج أسبابا ومقدمات تفضي إليها …

وجعل السبيل إلى ولايته ، العمل والخطو والتقرب والسير إليه … فمن قنع بالأمنيات ، واكتفى بالأحلام ، ولم  يجدّ في السير إلى الله ، انقطع ولم يصل …

فما أكثر من يقول: “إني أنتظر هداية الله” أو: “أنا أنتظر توفيق الله” أو: “أنا أنتظر عطاء الله” … ونحن كأمة نكثر في قولنا: “نحن ننتظر نصر الله” و: “ننتظر هداية الله” و ..”ننتظر … وننتظر ..”!!!

لكن ، هل انتظارنا هذا انتظار محمود..؟! وهل يعقبه ما نرجو من الخير..؟!

أم أنه قد يكون انتظارا مذموما .. لا تأتينا  بعده إلا النكسات ..؟! ولا  نرانا نتقدم خطوة ، إلا وتأخرنا بعدها خطوات..؟!

سر.. خيبة الأمل

قال الإمام ابن القيم – رحمه الله -: “قد قال الله – تعالى -: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ ) فتأمل كيف جعل رجاءهم بإتيانهم بهذه الطاعات ، وقال المغترون: إن المفرطين ، المضيعين لحقوق الله ، المعطلين لأوامره ، الباغين على عباده ، المتجرئين على محارمه ، أولئك يرجون رحمة الله !!

وسر المسألة أن الرجاء وحسن الظن إنما يكون مع الإتيان بالأسباب التي اقتضتها حكمة الله في شرعه وقدره وثوابه وكرامته ، فيأتي العبد بها ثم يحسن ظنه بربه ، ويرجوه أن لا يكله إليها ، وأن يجعلها موصلة إلى ما ينفعه ، ويصرف ما يعارضها ويبطل أثرها” .

فالذي يريد ولاية الله ، والذي يريد رحمة الله ، عليه أن يسير في طريق الله ، يعمل بما  أمر الله – عز وجل – ، يبذل إيمانا وهجرة وجهادا ، كما قال الله . أما البطالون والكسالى  الذين يدعون أنهم يرجون رحمة الله ، مع عدم السعي إلى ذلك، فكذبوا .. وصدق الله …

إنها .. أبواب الجنة !

إن رحمة الله وولايته تنال بأسباب . انظروا إلى أبواب الجنة ، بأي شيء كانت هذه الأبواب..؟! ألم تكن بأعمال..؟! فمن كان من أهل الصلاة ، دعي من باب الصلاة .. ومن كان من أهل الصيام ، دعي من باب الريان .. وهكذا ..

هل وجدنا بابا للجنة ، ليس عنوانه عملا ، يدخل به صاحبه منه ..؟!

هل وجدنا بابا للجنة ، يدخل منه العبد بالأمنيات والأحلام ..؟! أبدا والله ..

بل وجدنا همة أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – تتسامق إلى ما هو أعلى من ذلك ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:” من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة يا عبد الله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة“، فقال أبو بكر رضي الله عنه : “بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها”، قال :”نعم وأرجو أن تكون منهم“.

فهو رضي الله عنه لا يريد أن ينادى عليه من باب واحد ، وإنما يطلب أن ينادى عليه من كل باب ، ويدخل على الله من كل سبب .

وهذا هو التوفيق : أن يعمل العبد ، ويعلم أن عمله سبب حتى يرحمه ربه ، وإلى أن يصطفيه في الأولياء المقربين ..

 بين هرقل.. وسلمان

وانظر في مقارنات سريعة – وبضدها تتبين الأشياء – بين أناس عملوا وسعوا للإيمان ، وبين أناس .. علموا .. لكنهم  ما عملوا وما ساروا …

أتعرفون هرقل ملك الروم ..؟.. إنه لم ملكا وفقط ، كان ملكا ، وكان له من العلم حظ ونصيب ، فكان يقرأ في كتب أهل الكتاب ، ويعلم منها الكثير ، بل كان فوق ذلك ممن ينظرون في النجوم ويتلمسون الأخبار . جاء ذلك في صحيح البخاري – رحمه الله – في كتاب بدأ الوحي ، ففيه “أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوماً خبيث النفس ، فقال بعض بطارقته : قد استنكرنا هيئتك . قال ابن الناظور : وكان هرقل حزاء ينظر في النجوم ، فقال لهم حين سألوه : إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر ، فمن يختتن من هذه الأمة ؟

قالوا : ليس يختتن إلا اليهود فلا يهمنك شأنهم ، واكتب إلى مداين ملكك ، فيقتلوا من فيهم من اليهود . فبينما هم على أمرهم ، أتي هرقل برجل أرسل به ملك غسان ، يخبر عن خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما استخبره هرقل قال : اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا ؟

فنظروا إليه ، فحدثوه أنه مختتن . وسأله عن العرب ، فقال : هم يختتنون . فقال هرقل : هذا ملك هذه الأمة قد ظهر .

ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية وكان نظيره في العلم . وسار هرقل إلى حمص ، فلم يرم حمص ، حتى أتاه كتاب من صاحبه ، يوافق رأي هرقل ، على خروج النبي صلى الله عليه وسلم  وأنه نبي ، فأذن هرقل لعظماء الروم ، في دسكرة له بحمص ، ثم أمر بأبوابها فغلقت ، ثم اطلع فقال : يا معشر الروم ، هل لكم في الفلاح والرشد ، وأن يثبت ملككم ، فتبايعوا هذا النبي ؟

فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب ، فوجدوها قد غلقت ، فلما رأى هرقل نفرتهم ، وأيس من الإيمان ، قال: ردوهم علي . وقال: إني قلت مقالتي آنفا ، أختبر بها شدتكم على دينكم ، فقد رأيت .

فسجدوا له ورضوا عنه فكان ذلك آخر شأن هرقل ..”.

قال ابن حجر – رحمه الله – في فتح الباري: “فإن قيل: كيف ساغ للبخاري إيراد هذا الخبر المشعر بتقوية أمر المنجمين والاعتماد على ما تدل عليه أحكامهم ؟ فالجواب أنه لم يقصد ذلك، بل قصد أن يبين أن الإشارات بالنبي صلى الله عليه وسلم جاءت من كل طريق ، وعلى لسان كل فريق ، من كاهن أو منجم ، محق أو مبطل ، إنسي أو جني ، وهذا من أبدع ما يشير إليه عالم ، أو يجنح إليه محتج”.

بل إن تكثير أسباب الهداية هذا ، من كمال رحمة الله ، وإحسانه إلى العباد ، وحجته البالغة  عليهم – سبحانه وتعالى –  .

ثم جرى حوار  طويل مشهور بينه وبين أبي سفيان ، قال في آخره : ” فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا، فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ ، لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ ، فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ ، لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ . وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ ، لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ “

فها هو هرقل ، كان يعلم أن نبيا يخرج في هذا الزمان ، وأنه ما كان يظن أنه سيكون من العرب ، وانه قد تأكد بما ظهر له أنه نبي آخر الزمان ، وأنه لو يقدر أن يصل إليه لغسل قدميه بالماء … هل يوجد علم بالحق أكثر مما توفر لهرقل ؟!… ومع ذلك لم يخط هرقل خطوة نحو الإيمان ، لم يسر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، لم يلحق به ، لم يؤمن . فما انتفع  بشيء من ذلك … مع عظيم نعمة الله عليه … لكنه ما شكرها !!… لم يسر إلى الله ، فلم يعط قربا من الله ..

وانظروا في الجهة الأخرى إلى من قدر له أن ينشأ في بيئة وثنية  .. إنه سلمان الفارسي ..  لكنه سار في طريق الحق .. لما بدا له ما هو أحق من دينه – لأنه نشأ مجوسيا – ، مما كان عند النصارى ، لم ينتقل إلى دينهم وفقط ، بل سأل عن أصل هذا الدين ..  حتى يهاجر إليه ، ويطلبه .. يطلب القرب من ربه – تبارك وتعالى – ..

فهاجر إلى بلاد الشام ، وتنقلت به الأقدار ، من راهب إلى راهب ، حتى دل على مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يهاجر إلى المدينة ، أخبر بها بصفتها .. ثم جرت به الأقدار ، حتى استرق واستلب حريته التي ولد عليها ، ووصل إلى أن كان عبدا عند يهودي بالمدينة ، قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم إليها ..

وهو في كل ذلك سائر .. طالب القرب من الله  – تبارك وتعالى – .. فاستحق بذلك القرب ، وكان من سادات المؤمنين ، حتى إنه قد صح الأثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهأنه قال : “سلمان منا آل البيت” ..  نعم ، لم يصح ذلك عن النبي  صلى الله عليه وسلم ، ولكنه صح عن علي رضي الله عنه، وهو من هو في العلم ، والشرف ، والقرب من النبي صلى الله عليه وسلم .. ” منا آل البيت” .. نسبة تكريم وتشريف .. لسيره ، وجهاده ، وطلبه ، وتقربه من ربه – تبارك وتعالى – ..

كم تيسر لسلمان في  نشأته الأولى ؟!.. وكم تيسر لهرقل ؟!.. لكن العبرة بمن سار وصدق ، وليست العبرة بمن علم وسبق – أي : سبق بالعلم ولم يسبق بالعمل – …

وبين أهل مكة .. وأهل المدينة

انظروا !!.. هل أهل مكة كانوا أعلم بالنبي صلى الله عليه وسلم .. أم أهل المدينة ؟!.. إن أهل مكة كانوا هم أعلم ، فقد رأوا من الآيات الدالة على صدقه  صلى الله عليه وسلمأكثر مما رأى أهل المدينة … حتى إنهم لما طلبوا انشقاق القمر .. انشق القمر .. وأنزل الله – تبارك وتعالى – : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ) ..

لكنهم لم يبادروا بالإيمان .. لم يسيروا ويسعوا نحو هذا الإيمان .. تأخر الكثير منهم ، فأخرهم الله ..

وجاء أهل المدينة .. مرتحلين من مدينتهم إلى  مكة .. يطلبون الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم .. ويسعون إلى نصرة النبي صلى الله عليه وسلم .. فاستحقوا بذلك .. الذكر الحسن عند الله – تبارك وتعالى – .. وإثبات فضلهم في القرآن .. وكانوا هم من السابقين الأولين ( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ …) تميزوا بذلك عن كل من جاء بعدهم ..

لكنهم تأخروا في العمل .. فأخروا في الذكر .. وأخروا في الفضل .. وأخروا في القرب .. ومن بادر بالعمل وسار .. رفع وأعطي

تميزوا بذلك عمن تأخر إسلامهم .. وهم أكثر أهل مكة ، مع أنه قد نشأ النبي صلى الله عليه وسلم بينهم ..! لكنهم تأخروا في العمل .. فأخروا في الذكر .. وأخروا في الفضل .. وأخروا في القرب .. ومن بادر بالعمل وسار .. رفع وأعطي ..

العتاب الرباني .. لأجل من سعى

 إنها السورة التي يحفظها  كل أو أكثر أهل المساجد ، وفي أولها أنزل الله – تبارك وتعالى – قرآنا .. يعاتب فيه النبي صلى الله عليه وسلم .. (عَبَسَ وَتَوَلَّى *  أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى)

الله – تبارك وتعالى – يثبت في القرآن عتابا للنبي  صلى الله عليه وسلم ..على ماذا ؟!.. لأنه انشغل عن  رجل من ضعفاء المؤمنين ومساكينهم .. عن رجل حرم نعمة النظر ، لكنه مع نقصان هذه النعمة في بدنه .. جاء يسعى .. أثبت الله له ذلك ، فقال : ( وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى {8} وَهُوَ يَخْشَى {9} فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) .. يعنى : إن هذا المقبل الساعي .. لا يترك .. ولا يرد .. ولا يهمل .. بل هو بسعيه يكتسب أولويته ، وأهميته ، ويستحق إعطاءه ما يطلب ..

أما غيره ، ممن أعطوا من الأسباب أكثر مما أعطي ، ممن أعطوا كمالا في حواسهم ، وسلامة في أعضائهم ، وثراء في أموالهم ، وكلمة مسموعة مطاعة بين الناس .. مع عظيم رجاء النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا .. لما لم يكونوا ساعين إلى الإيمان ، طالبين له ، راجين القرب من الرحمن – سبحانه وتعالى – ، أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم ألا  يقارن بينهم .. وبين الضعيف الضرير الساعي .. بل إذا  جاء الساعي قدم ، و ترك غيره ممن يسعى إليه ..

لا سبيل سواه .. لنيل الفضل

فالطريق إلى الله – تبارك وتعالى – ، وولاية الله – عز وجل – ، إنما تنال بالعمل و البذل والسعي …

النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا عن ربنا – تبارك وتعالى – أنه – عز وجل – قال في الحديث القدسي : “أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه .. ذكرته في نفسي . وإن ذكرني في ملأ .. ذكرته في ملأ خير منهم . وإن تقرب إلي بشبر .. تقربت إليه ذراعا . وإن تقرب إلي ذراعا .. تقربت إليه باعا . وإن أتاني يمشي .. أتيته هرولة” ..

إن الإنسان يأخذ أكثر مما يعطي – ففضل الله واسع – ، لكن .. لابد أن يقدم السعي والعمل .. فإذا ذكر العبد .. ذكره الله ، وإذا حاول العبد أن يقترب .. اقترب منه الله ، فنال بذلك ولاية الله ..

فالمحروم  من حرم هذه الخطوة ..

من لم يذكر .. فلم يذكره ربه ..

من لم يسع ولم يتقرب .. فلم يسع ربه إليه ولم يتقرب منه ..

فكانت بينه وبين الله .. الحواجز والمسافات ..

نعم ، إن الله كريم .. يعطيك أكثر من عملك ، لكن .. لا بد من هذا العمل ، وهذا السعي .. لا بد أن يجمع هذا ، مع كمال التبرؤ من الحول والقوة ، وبالتالي انتظار الفضل من الله -عز وجل – .. فإذا اجتمع هذان الأمران .. رزق العبد التوفيق إلى الترقي في مراتب الولاية ..

هكذا .. كان الرسول  صلى الله عليه وسلم

ففي غزوة بدر “عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ الألوية ، وكان لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ الأعظم لواء المهاجرين مع مصعب بن عمير ، ولواء الخزرج مع الحباب بن المنذر ، ولواء الأوس مع سعد بن معاذ ، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شعار المهاجرين : يا بني عبد الرحمن . وشعار الخزرج : يا بني عبد الله . وشعار الأوس : يا بني عبيد الله . ويقال : بل كان شعار المسلمين جميعا يومئذ: يا منصور أمِتْ …

ونزل رسول الله  صلى الله عليه وسلم أدنى بدر عشاء ليلة جمعة لسبع عشرة مضت من شهر رمضان ، فبعث عليا والزبير وسعد بن أبي وقاص وبسبس بن عمرو يتحسسون خبر المشركين على الماء ، فوجدوا روايا قريش فيها سقاؤهم ، فأخذوهم . وبلغ قريشا خبر رسول الله  صلى الله عليه وسلم وأنه قد أخذ سقاءهم ، فماج العسكر . وأتي بالسقاء إلى رسول الله  صلى الله عليه وسلم فقال : أين قريش ؟ فقالوا : خلف هذا الكثيب الذي ترى . قال : كم هم ؟ قالوا : كثير . قال : كم عددهم ؟ قالوا : لا ندري . قال : كم ينحرون ؟  قالوا : يوما عشرا ويوما تسعا . فقال  صلى الله عليه وسلم : القوم ما بين الألف والتسعمائة . فكانوا تسعمائة وخمسين إنسانا، وكانت خيلهم مائة فرس . وقال الحباب بن المنذر : يا رسول الله ، إن هذا المكان الذي أنت به ليس بمنزل ، انطلق بنا إلى أدنى ماء إلى القوم فإني عالم بها وبقلبها، بها قليب قد عرفت عذوبة مائه لا ينزح ، ثم نبني عليه حوضا فنشرب ونقاتل ونغور ما سواه من القلب .

 .. فنهض رسول الله  صلى الله عليه وسلم ففعل ذلك … وبني لرسول الله  صلى الله عليه وسلم عريش من جريد ، فدخله النبي وأبو بكر الصديق ، وقام سعد بن معاذ على باب العريش متوشحا بالسيف .

فلما أصبح صف أصحابه قبل أن تنزل قريش ، وطلعت قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصفف أصحابه ويعدلهم كأنما يقوم بهم القدح ، ومعه يومئذ قدح يشير به إلى هذا : تقدم . وإلى هذا : تأخر . حتى استووا … “

هل تأملتم كيف حشد الجيش بما يقدر عليه وعبأه ونظمه واختار الموقع ؟!.. ثم بعد ذلك ، استقبل ” نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه : “اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم آت ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض” ، فما زال يهتف بربه ماداً يديه ، مستقبل القبلة ، حتى سقط رداؤه عن منكبيه ، فأتاه أبو بكر ، فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ، ثم التزمه من ورائه ، وقال : يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله ( إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلَائِكَة مُرْدِفِينَ )

فهذا كمال السعي والبذل .. مع كمال التذلل والافتقار ، لأن اليقين بأن الخير والنصر .. لا يأتي إلا من عند الله – سبحانه وتعالى – .. وأنه يطلب منه – عز وجل – بأسباب لا بد من سلوكها …

وإلى ذلك .. أرشد العلماء

لن أحكي لك هنا صورا من اجتهاد الأولياء ، في عبادة العباد .. أو بذل العلماء .. أو تضحية المجاهدين .. فالتاريخ مملوء بها ، وقد ألفت فيها الكتب الكثيرة بما يغني عن التكرار ..

لكنني أسوق لك حكمة .. رأى فيها أحد الأئمة خلاصة تجربة .. فكتبها في أعجب مكان ..!

الإمام مسلم – رحمه الله – في “صحيحه” في “باب أوقات الصلوات الخمس” وضع أثرا عن يحيى بن أبي كثير – رحمه الله – أنه قال : “لا يستطاع العلم براحة الجسم” .. فما معنى هذا؟!.. وما علاقته بأوقات الصلاة؟!..

يقول الإمام النووي – رحمه الله – في “شرحه لصحيح مسلم” : “جرت عادة الفضلاء ، بالسؤال عن إدخال مسلم هذه الحكاية عن يحيى ، مع أنه لا يذكر في كتابه إلا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم محضة ، مع أن هذه الحكاية لا تتعلق بأحاديث مواقيت الصلاة ، فكيف أدخلها بينها ؟ وحكى القاضي عياض – رحمه الله تعالى – عن بعض الأئمة أنه قال : سببه أن مسلماً – رحمه الله تعالى – أعجبه حسن سياق هذه الطرق التي ذكرها لحديث عبد الله بن عمرو ، وكثرة فوائدها ، وتلخيص مقاصدها ، وما اشتملت عليه من الفوائد في الأحكام وغيرها ، ولا نعلم أحدا شاركه فيها ، فلما رأى ذلك ، أراد أن ينبه من رغب في تحصيل الرتبة التي ينال بها معرفة مثل هذا ، فقال : طريقه أن يكثر اشتغاله وإتعابه جسمه في الاعتناء بتحصيل العلم”

لقد أراد أن يدل  القارئ ، على أن هذا الخير الذي يجده بين يديه ، لم يكن سهلا ، وإنما حصل بالتعب ..

فإذا أردت أن ترزق توفيقا وتسديدا .. وأن تنال ولاية من الله وتكريما .. وأن  تحوز منزلة لم تسبق إليها .. فعليك أن تسلك طريق .. العمل والتعب والبذل ، وإلا .. فاقطع الأمل ..

كن إنسانا .. يسبق العاديات

هل تدبرت أخي يوما سورة ” العاديات ” .. فعرفت أنها الخيل ، ذكرت بأوصافها حين تركض وتستفرغ وسعها في مواطن الجهاد في سبيل الله – تعالى – ؟!.. ( وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا { 1 } فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا { 2 } فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا { 3 } فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا { 4 } فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا )

وهل تساءلت عن سر ذكر الأوصاف ، دون ذكر الموصوف .. فعرفت أن ذلك لأن الأوصاف هنا هي الأهم ، لا الأعيان .. ولأن الأوصاف لما اشتد ارتباطها بأصحابها ، صار ذكر الأوصاف كافيا في معرفة الأعيان ، دون الحاجة لذكرها ؟!..

ألم تتذكر بعدها أن الله – عز وجل – لا يقسم إلا بما له قدر عنده ، مما ينبه به عباده ؟!.. فعرفت أن الخيل ، وهي من الحيوانات ، لم تكتسب هذا القدر عندما أقسم بها رب العالمين – سبحانه – إلا .. بالعمل والتعب والعدو .. في أعظم مواطن العبودية والتضحية في سبيل الله ..

ثم هل عدت فسألت نفسك : لماذا أقسم الله بهذا على جحود الإنسان لنعمة ربه عليه ( إِنَّ الإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ) ؟!..

لأنك أيها الإنسان ، قد سخرت لك هذه الخيل الموصوفة ، فما استخدمتها .. في أعظم ما خلقت له ، بل غرقت في حظ نفسك منها ، ولم تشكر من أعطاك إياها .. فكنت أنت الشاهد على نفسك بجحود نعمة ربك ( وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ { 7 } وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) بل لأنك أيها الإنسان ، قد أعطاك الله  في نفسك وصفاتها .. خيرا مما أعطى الخيل .. وكيف لا وأنت المخلوق المكرم المفضل .. ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) ؟!.. فكيف تبلغ خيل رتبة .. تقصر أنت عنها ؟!.. ألا تكون بهذا .. شاهدا على جحودك نعمة ربك عليك ؟!..

فاعمل أخي ، ولا تسر .. بل .. اركض .. لتسبق العاديات ، وأنت أهل لهذا .. بعظيم نعمة الله عليك ، تكن تابعا .. لمن أتعب نفسه وبدنه في مرضاة الله ، وقال لمن عاتبه في شدة اجتهاده : ” أفلا أكون عبدا شكورا ؟!” .

ما علاقتنا .. بالصراط المستقيم ؟

إننا ندعو ربنا الكريم – سبحانه وتعالى – في كل ركعة من صلاتنا ، فنقول – على الأقل – سبع عشرة مرة ، في كل يوم وليلة : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) فهل عرفنا ما هو ( الصراط المستقيم ) ؟!..

إنه – كما يقول ابن القيم – “ولا تكون الطريق صراطا ، حتى تتضمن خمسة أمور : الاستقامة ، والإيصال إلى المقصود ، والقرب ، وسعته للمارين عليه ، وتعينه طريقا للمقصود. ولا يخفى تضمن الصراط المستقيم ، لهذه الأمور الخمسة” .

بل لا يخفى ، أن الانتفاع بالصراط .. لا يكون بمجرد معرفته ، ولا محبته ، ولا الكلام عنه ، أو ذكر محاسنه .. بل بالسير فيه .. للوصول إلى المقصود ..

فمن سار .. وصل ..

فمن سار .. وصل ..

ومن وقف  .. انقطع ..

ومن تأخر .. حرم ..

وهل السير إلا بالعمل ؟!.. فإنه ” من بطّأ به عمله ، لم يسرع به نسبه ” كما قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم .

لذلك استحسن  النووي في مقدمة “رياض الصالحين” قول القائل :

“إن لله عــبــادا فـطـنا   طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا

نظروا فيها فلما علموا   أنـها ليـســت لحي وطــنا

    جعـلوهـا لجة واتخذوا   صالح الأعمال فيها سفنا”

فهل آن لكل واحد منا أن يتساءل عن علاقته ” بالصراط المستقيم ” الذي يدعو الله أن يهديه إليه ؟!..

السعي العظيم .. للهدف العظيم

إنه ليس هناك هدف أعظم من .. ولاية الله ..

والتناسب بين الهدف .. والطريق الموصل إليه ، حقيقة .. كونا وشرعا ..

انظر – إن شئت – إلى أهل الدنيا .. تعتبر ..

بل انظر إلى من سبقوك .. من أولياء الله .. وسابقهم ..

وتذكر كلمة ابن القيم : “لو تخيلت قرب المحبين ، لبكيت على بعدك” .. وابك ..

بل تذكر كلمة العمل الصالح .. لصاحبه – وقد دخل معه قبره ، ليؤنسه – : “أنا عملك الصالح ، كنت والله سريعا في طاعة الله ، بطيئا عن معصية الله ، فجزاك الله خيرا” كما أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم ..

واستحضر أن حرص الآخرين على الخير لك ، لا يوصلك إلى الخير . فقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إيمان عمه أبي طالب – حتى آخر لحظات حياة أبي طالب – ومع ذلك .. لم يؤمن أبو طالب ..!! لأنه لم يتحرك بنفسه نحو هذا الإيمان .. وأنت لن تجد مثل النبي صلى الله عليه وسلم يحرص على علاقتك بربك ، ولو وجدت – على سبيل الافتراض – .. فلن ينفعك ذلك .. حتى تتحرك نحو هذه العلاقة ..

لهذا .. اركب سفينة العمل ..

ولا تسر .. بل اركض ..

حتى .. تدرك الهدف ..

ولك منا – بعد النصح – الدعاء .. وفقك الله .. وأعانك .. وأرضاك بقربه .. آمين ..


التعليقات