عبقرية الإمام أحمد

من عبقرية الإمام أحمد في قوله “الحكم الشرعي خطاب الشرع وقوله”

كلَّما وقفتُ عندَ بعض الألفاظ المنقولة عنِ الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – وجدتُ دقَّةً وقوةً ربما لا تلحظها في كثيرٍ ممَّن اشتُهر عنه وضْع المطوَّلات، ويظهر لي مدَى ما تعرَّض له الإمام مِن إجحاف عندَ الحديث على عالميَّتِه من ناحية الفِقه والنَّظَر.

وقدِ اشتُهِر الإمام – رحمه الله تعالى – بقلَّة التصنيف، ومع ذلك قَدَّرَ اللهُ تعالى له أن يحملَ أقرانُه وطلبته وتلاميذه عنه هذا العبءَ، فلا أعلمُ إمامًا بلَغ الاهتمام برَصْد قوله وتدوينه في مختلف العلوم الشرعيَّة ما بلغه الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – حتى إنَّك تجِد الرواياتِ الكثيرةَ حول المسألة الواحدة، وبالرغم مِن اعتبار البعض أنَّ هذه المسألة مِن مثالب المذهب الحنبلي؛ إلا أنَّني أراها مِن الأدلة البَيِّنَة على مدى عناية النَّقْل ودقَّته، ووفْرة ناقليه، فلا يعني النَّقْل لقولٍ واحدٍ لغير الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – في مسألةٍ أنَّ هذا العالِم أو الشيخ لم يَقُلْ إلا قولاً واحدًا، فعدم النَّقْل ليس نَقْلاً للعدم!

فالدعوى أنَّ الأئمة لهم روايات في مسائل بحُكم تشابُكِها واقترابها مِن بعض، وبحُكم التغيرات التي قد تحصُل للعالِم في مشوار طلبِه وتحصيله، وما قد يُسبِّبه الاختلاف بيْن الفتاوى والأحكام مِن تنوع للرِّوايات في المسألة … إلى غير ذلك مِن عوامل، فامتازَ مَن نُقِلت أقواله وحُفِظَت، على مَن ضاعتْ أقواله أو اختُصِرت.

ثم يأتي دَور فِقه الأقوال والجمْع بينها، وبيان الصُّور التي يلتحق بها كلُّ قول، وقد يجمع البعضُ أقوالاً للإمام أحمد – رحمه الله تعالى – تتناول صورًا متقاربة، إلا أنَّها ليستْ متطابقة، معتبرًا إيَّاها من تعدُّد الروايات، وليس الأمر في حقيقته على هذا النحو.
وقد شهِد عصر الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – ارتفاعَ نجْم المتكلِّمين بعد أن راجتْ بضاعتهم لدَى الخليفة المأمون، وموَّهوا على الكثير من الناس؛ ﴿ فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ ﴾ [هود: 116]، فكان مِن هذه البقية إمامُ أهل السُّنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله تعالى.

لكن النهي عنِ الفساد يستلزم العِلمَ به، والنهي عن السُّوء يستلزم تصوُّرَه، فلا يُتَصَوَّر النهي عن شيء مجهول، أو ما لا تُعلم له أبعادٌ وملامح، فمراحلُ

النهي عن الفساد يُمكن تحليلها إلى:

1- فَهم المنهج الشرعي بدقَّة و عمق.
2- العِلم بالمخالفة، والوقوف على شُبهاتها.
3- بيان موطِن المخالَفة بدقَّة.

أمَّا فَهم المنهج الشرعي، فقد يشترك فيه عددٌ مِن علمائنا وأئمَّتنا مِن العلماء الربانيِّين، لكن القليل منهم مَن يستطيع فَهم النوازل والمخالفات التي تطْرأ على المجتمع المسلِم، ويبيِّن عوارها، سيَّما إذا كانتْ هذه المخالفات تعتمد على مناهجَ فكريَّة غير معتادة عندَ علماء الشريعة، ويستلزم فَهمُها قدراتٍ خاصَّة لتحليل آحادها، والغوْص في معانيها؛ لئلاَّ نصنع إشكالاً في غير محلِّه إنْ كان ما يعتري المنهج المخالِف غرابة اللفْظ والاصطلاح، لا حقيقة المخالَفة، أو تمرُّ علينا المخالفة دون تنبُّه إنْ كانت تحمل في غرابتها مخالَفة، تحميها – الغرابة – مِن أن يقف العلماءُ على كُنهها.

وقد كان مِن الأصول الفاسِدة التي بنَى عليها المعتزلة آراءهم أنَّ قضايا العدل والتوحيد سابقةٌ على فَهْم كلام الشارع، ولعلَّ هذا هو السرُّ في انتحالهم لطريقتهم المشهورة، والتي نُسبت إليهم في تناول عِلم أصول الفقه، وكذا هو السبب في ادِّعائهم أنَّ العقل أصلُ النقل، فلا يعود النقلُ على العقل بالإبطال، فعند التعارُض – بوهمهم – يُقدَّم العقل؛ لئلاَّ ينهدم بالتَّبع دليلُ النقل، فينهدمَا جميعًا!

فلمَّا تعرَّضوا لصفات الله – تبارك وتعالى – كان لازمُ مذهبهم إثباتَ هذه الصِّفات بمنأًى عن النص الشرعي مِن حيث الأصل، فإذا ثبتتِ الصفة على هذه الجِهة – سواء سلبيَّة أو إيجابيَّة – وورد في النصوص الشرعيَّة ما يخالف ما وصلتْ إليه عقولُهم مِن هذه الصفات، وجَب تأويلُ تلك الصِّفة، وصرْفها عن حقيقتها؛ لتتلاءمَ النصوص مع ما وصَلوا إليه بعقولهم، وبناءً على ذلك وصلوا إلى القضية التي اشتهرتْ في عصْر الإمام – رحمه الله – باسم “قضية خلْق القرآن”، فقد نفَوا عن الله – تبارك وتعالى – صفةَ الكلام، وبالتالي انتحلوا فِكرةَ أنَّ القرآن ليس كلامًا لله – تبارك وتعالى – وإنَّما هو مخلوق له!

غير أنَّ المعتزلة وغيرهم مِن المتكلِّمين – فيما بعد – لم يكتفوا بوضْعِ ما وصلوا إليه مِن نتائجَ مغلوطة في كُتبهم الكلامية العَقَدية؛ وإنَّما طفح ذلك على مناحٍ شتَّى مِن أقوالهم ومصنَّفاتهم في غير عِلم الكلام والعقائد، فظَهر الأثَر الكلامي والعقدي في مصنَّفاتهم اللُّغوية كأبي عليٍّ الفارسي وابن جنِّي والمبرِّد، وفي اختياراتهم البلاغية كالجاحظ، وحتى إنْ كانت متعلِّقةً بالتفسير كالزمخشري في “الكشَّاف”، كما ظهرتْ في أقوالهم ومصنَّفاتهم الأصوليَّة.

وقد دَرَجَ أغلب الأصوليِّين على تعريف الحُكم الشرعي بأنَّه “خطاب الله المتعلِّق بفِعل المكلَّف…”،

على تفصيلاتٍ في ذلك في كونه خطابَ الله أو مُقتضاه، وفي إسناد الخطابِ إلى الشارع أو الشَّرْع، وفي جمع “فعل” إلى أفعال، وما ورَد على التعريف مِن قيود… إلى آخر ذلك، وكان لا بدَّ أن يكونَ مِن اللافت استخدام لفظ “خطاب”، وعدم استخدام لفظ “كلام”، إلا أنَّ هذا الاختلافَ بيْن اللفظين لم يسترعِ الكثير مِن انتباه واضعي المتون وشُرَّاحِها، ومضوا على نقْل هذا اللفظ لاحقًا عن سابِق، بل إنَّ مصنَّفات الأصوليِّين مِن أهل السُّنة والجماعة درجَتْ على نفْس المنوال، وإلى وقتنا الحاضِر!

وإذا أردْنا أن نعرِف سبب اختيار لفْظ أو ترجيحه على آخَر، فلنستدعِ الألفاظ التي كانتْ مُرَشَّحة للاستخدام خلافًا لهذا اللفظ، ونبْحث في لوازم استخدام كلِّ لفظ، فلا شكَّ أنَّ انتهاج هذه الطريقة مُبَيِّنٌ الدَّاعي لاستخدام لفْظ، وطرْح ما عداه.

لا شكَّ أنَّ اللفظ المتبادر للاستعمال في هذا التعريف هو لفظ “كلام الله…”، أو “كلام الشارع…”، أو “كلام الشرع…”، ونحوه كـ”قول”، على الخِلاف في اللفظ المسند إليه، والعدول عنه إلى غيره لا بدَّ وأن يكون ناتجًا عن اختيار وإرادة، يسبقُها بحْث، وإلا كان عبثًا أو تقليدًا، وإذا صحَّ التقليد والتمرير عندَ الخالف، فلا يصح أن يكونَ كذلك عندَ السابق؛ لأنَّه ما انتقل إلا لداعٍ، سيما وما نعرِفه من الدقَّة في وضْع هذا النوع مِن هذه المصنَّفات؛ لانبناء عِلم الفقه عليها، وركونه إليها، بل ويظهر ذلك بوضوحٍ في نَفَس المتأخِّر، وما ظهَر من معارك على ألفاظ الحدود والتعريفات، وإيراد ما لم يحصلْ في غيره من العلوم كمًّا وكيفًا، فالتدقيق في ألفاظ عِلم الأصول بين منتحلِيه لا يُدانيه غيره مِن العلوم، حتى وإنْ كانتِ الألفاظ المستخدَمة في تلك العلوم – غير الأصول – أكثرَ دقَّةً في نفْس الأمر، لكن اكتسابها للدقَّة ربَّما لأمْرٍ خارجيٍّ، كعِلم العقيدة، فإنَّ ألفاظها اتَّسمت بالدقَّة لانتحال الألفاظ الشرعيَّة الواردة، لا لتدقيق مُنتحلي هذا العِلم وحْدَهم.

إذا ثبَت هذا، فإنَّ استعمال لفظ “كلام الله…”، أو “قول الله …”، ونحوهما لا يتناسَب مع اعتقاد المعتزلي من نفْي صِفة الكلام عن ذاته – تبارك وتعالى – وإذا كان المقصودُ بالحُكم مدلول نَفْس النصِّ الشرعي بشرْطه؛ كقوله تعالى: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ﴾ [البقرة: 43]، فإنَّ مدلوله هو الحُكم عندَ جمهور الأصوليِّين، فلا يصحُّ إطلاق لفظ “كلام”، أو “قول” على النصِّ السابِق بناءً على المعتقَد المعتزلي مِن أنَّ القرآن مخلوق، فكان لا بدَّ مِن استخدام لفظ آخَر يُشير إلى النصِّ السابِق ونحوه، دون أن يخدش المعتقد المعتزلي، وقد يُشير أيضًا ضمنًا إلى هذا المعتقد، فوقَع التوافُق على استعمال لفظ “خطاب الله…”، قال أبو الحسين البصري: “لأنَّ النَّسخ يدْخل الأَفْعَال، ويَقَع بها، كمَا يدْخل الخِطاب، ونقدِّم النَّسْخ على الإِجْماع؛ لأَن النَّسْخ يدْخل فِي خطاب الله سُبْحانه وخطاب رَسُوله – صلَّى الله عَلَيْه وسلَّم – دون الإجماع”[1]، وتظهر المقابَلة بيْن ما أسْندَه إلى النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – وبيْن ما أسندَه لله – عزَّ وجلَّ – في قوله:”لأَن القَرَائِن قد تكون شَاهدَ حَال وَغير ذَلِك مِمَّا ليْس من فعل الْمُتَكَلّم – صلى الله عليه وسلم – بَاب فِي حسن دُخُول الْمجَاز فِي خطاب الله وَفِي أَنه قد خَاطب بِه – صلى الله عليه وسلم -“[2]، فأسند إلى الرسول – صلَّى الله عليه وسلَّم -كلامًا، وإلى الله – تبارك وتعالى – خِطابًا، وقوله: “وَمِنْها قَوْلهم: لَو خَاطب الله بالمجاز والاستعارة، لصَحَّ وَصفُه بأنَّه مُتَجَوِّزٌ فِي خِطابه وبأَنَّه مستعير“[3]، وغيره من النقول، وسيأتي بعضُها.

ونرى أنَّ استعمال هذا اللفظ فيه مِن دقَّة المعتزلة – بحسبِ معتقدهم – وذلك أنَّنا بحثنا في معاني هذا اللفظ، فوجدْنا ممَّا قد يكون دافعًا للمعتزلة لاستعمال هذا اللفظ عددًا من معانيه:

1- الخَطب:

سببُ الأمْر[4]، وربَّما يتعلَّق هذا بشكل مباشِر باعتقاد أنَّ القرآن مخلوق بحسبِ المعتزلة، فكأنَّ خطابه – تبارك وتعالى – سبب في حُدوث هذا النص.

2- أنَّ الخطابَ يَستدعي مخاطبًا :

فالخطاب “كلُّ كلام بيْنك وبين آخَر”[5]، فإذا كان المخاطَب – وهو المكلَّف – مُحْدَثٌ بلا شكٍّ، فلازمه أنَّ الخطاب محدَثٌ!

3- أنَّ الخطبة تستدعي “المرة” :

6]، وأنَّ لها أولاً وآخِرًا، ومنها قولُ بعض العرب: اللَّهُمَّ غَلَبَني فلانٌ على قُطْعةٍ منَ الأرض؛ يُريدُ أَرضًا مَفْرُوزة[7]، وهو ما يوافِق كذلك معتقدَ الأشاعرة، مِن قصرهم القِدم على الكلام النفْسي، وأما أهل السُّنة فيثبتون قِدم النوع، وحدوث الآحاد، فإنَّه – تبارك وتعالى – لم يزَلْ متكلمًا – كما سبق – وسيأتي بيانُ ذلك.

4- أنَّ الخطاب مُباين للكلام :

فأنتَ تقول: “خاطبته بقول”، فهو ليس قولاً، وإلاَّ كان معناه كلمته بكلام، ووسيلة الخِطاب قد تكون الكلامَ وغيره، فيصحُّ المخاطبة بالرِّسالة مثلاً، والمخاطبة بواسطة، وهو موافِق للمعتقد المعتزلي.

5- وبالرغم مِن ذلك،فقد تشترِك بعضُ الألفاظ مع لفظ “الخطاب”

فيما سبَق، إلا أنَّ اختيار مادة (خ ط ب) له خصوصيتُه في هذا الموضِع، فلا شكَّ في علاقة الاتِّصال والمصدرية بيْن فِكر المتكلِّمين ومنهجهم ومصنَّفاتهم، وبيْن كُتب الفلاسفة التي تُرْجِمت في تلك العصور، مِن الناحية الجُمَليَّة المنهجيَّة، وكذا مِن الناحية اللفظيَّة التفصيليَّة، فقد اختلفتْ طرائق المتكلِّمين عن مناهجِ سَلفهم من أئمَّة المسلمين، وقد أقرُّوا في مواضعَ بأنهم خَلَفيُّون في مقابل منهج السلفيِّين، كما تسلَّلتْ بعض الألفاظ والاصطلاحات التي لم تكُنْ عندَ السلف – رضي الله عنهم.

والنَّظَر في عُمَد الكُتب التي تُرْجِمت إلى العربية، بل وربَّما استُعْمِلت على لُغتها الأصلية كمجموعة كُتب أرسطو، ومنها كتابه “الخطابة”، قد يُشير إلى خُصوص اختيار هذا اللفْظ، فقد قال في تعريفه للخطابة: “القُدرة على النَّظَر في كلِّ ما يوصل إلى الإقناع في أيِّ مسألةٍ مِن المسائل”[8]، وباعتبار ابن رشد المعلِّم الثاني، والمُفَسِّر لكلام أرسطو؛ ننقل أيضًا تعريفَه للخطابة، فقدْ قال: “قوَّة تتكلَّف الإقناع الممكِن في كلِّ واحد مِن الأشياء المفردة“[9]، ومِن هنا نرى أنَّ المعتزلة قدِ استعملوا هذه المادَّة (خ ط ب)؛ لوجود العلاقة بيْن كلام الله – تبارك وتعالى – باعتباره حُكمًا شرعيًّا بشرطه، وبيْن القُدرة على النظر التي أشار إليها أرسطو، قال أبو الحسين البصري: “وأمَّا كَيْفيَّة الاسْتِدْلال بالأدلَّة على الأَحْكام، فالمرجع به إلى كَيْفيَّة تَرْتِيب الشُّرُوط والمقدِّمات الَّتي معها يسْتَدلُّ بالأدلَّة على الأحكام الشَّرعِيَّة، وَيصِحُّ أن يحمل مَعها خِطاب الحكيم إذا تجرَّد على حَقِيقَته دون مجازه، وعلى مجازه مع القَرِينَة”[10].

وبالرغم مِن أنَّ نشأة مذهب الأشاعرة كان مِن حيث الأصلُ للردِّ على المعتزلة، إلا أنَّ العلاقة بيْن المذهبين تضايقتْ شيئًا فشيئًا، والتزم متأخِّرو الأشاعِرة بكثيرٍ ممَّا لم يلتزمْ به أسلافُهم نتيجة هذا التقارُب، ويعتبر أبو المعالي الجويني (ت 478) الجسرَ الأكْبر لعبور الكثير مِن طرق المعتزلة وأفكارهم إلى مذهَب الأشعريَّة، بل يعتبر المذهب الأشعري مِن بعده تابعًا لما وصَل إليه، بالرغم مِن رجوعه في أُخريات حياته – كما هي عادةُ كثيرٍ من أئمَّة الأشاعرة – عن كثيرٍ ممَّا انتحله.

وعلى كلِّ حال

فقد كان المؤسِّس الحقيقي للمذهب الأشعري في طوره الأخير، وقد كان تلميذه الغزالي وفيًّا له إلى حدٍّ كبير، فقد تتبَّع خُطاه في كثيرٍ من المناحي العلميَّة على أكثرَ من مستوى، فقدِ اعتمد على كتابه “نهاية المطلب” في الفِقه، في وضْع “البسيط”، ثم “الوسيط”، ثم “الوجيز”، ثم “الخلاصة”، واعتمد على كُتبه الكلامية في تنظير عقيدةِ الأشاعرة، واعتمَد كذلك على “البرهان” في أصولِ الفِقه في وضْع كتابه “المستصفى”، ثم “التلخيص”، ثم تتابع التصنيف مِن الأشاعرة في أصولِ الفِقه؛ ولأنَّ هؤلاء المتكلِّمين ينتمون فقهيًّا إلى مذهب الشافعي – رحمه الله تعالى – فقد سُمِّيَت هذه المدرسة بمدرسة المتكلِّمين أو مدرسة الشافعيَّة، ودخَل على نفس المنوال المتكلِّمون أو المتأثِّرون بهم من المذهبين الفقهيين المالِكي والحنبلي، فنُسِبت الأصول المُصَنَّفة منهم إلى المذاهِب الفقهيَّة التي ينتسبون إليها، وهي في حقيقتِها قد سايرتْ طريقة المتكلِّمين، بالرغم مِن تطعيم بعضِهم لطريقته بِذِكْر أقوال إمام المذهب وفقهائه، وتَكفي مقارنة كتاب كـ”الرسالة” للإمام الشافعي – رحمه الله تعالى – من جِهة، وبين “البرهان” للجويني أو “المستصفى” للغزالي، فضلاً عن كُتب متأخِّري المتكلمين كشروحات الإسنوي؛ لبيان الفرْق بين طريقة الشافعي في تناول عِلم أصول الفِقه، وبين طريقة المتكلِّمين الذين انتسبوا إليه.

فَسَرَتْ طريقة المعتزِلة وألفاظهم وقضاياهم إلى أصولِ المذاهِب الفقهيَّة، بالرغمِ مِن قيام الأشاعِرة منهم بمحاولة الردِّ عليهم في بعضِ المسائل الواضِحة، وبيان مخالفتهم لهم فيها، كمسألة التحسين والتقبيح العَقلي، وكحُكم الأشياء قبل ورود الشَّرْع، إلا أنَّه بقيتْ بعض الألفاظ والقضايا الخفيَّة إلى الآن تحتاج إلى تدقيقٍ وتمحيص؛ لبيان الأصْل الذي بُنيت عليه.

فلمَّا استقرَّ هذا اللفظ عندَ الأشاعرة وغيرهم، أورد عليهم المعتزلةُ الإيراداتِ القاضيةَ بحدوث كلام الله – تبارك وتعالى – حال استعمال هذا اللفْظ[11]، وانبرى للردِّ عليهم الكثيرُ ممَّن انتحل هذا اللفظ،

لكن السؤال ما زال واردًا؛ لأنَّهم حاولوا إثباتَ مساواة الخِطاب بالكلام اصطلاحًا، فما الداعي ابتداءً في العدول عن لفْظ (كلام) إلى لفْظ (خطاب)، حتى إنْ وصل مَن يحاول الردَّ إلى أنَّه صار يساويه عُرفًا؟

وبالرغم ممَّا سبق وأنْ ذكرناه مِن عناية أصحاب الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – بأقواله ومرويَّاته، إلا أنَّ هذه العناية الفائِقة قد طغَى عليها – فيما يبدو – جانب الجمْع والتصنيف أكثر مِن التأصيل والتحليل لتلك المرويَّات، فما زالتِ الكثير مِن مرويَّات الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – وأقواله تحتاج إلى تدقيق وفَهْم، ولعلَّ هذه المرحلة كانتْ مُرَشَّحة للظهور بقوَّة بعد ما ظهَر مِن أتباع المذهب من جمْع الرِّوايات، وتصنيفها على الأبواب والمسائل، إلا أنَّ الفقه الإسلامي بعامَّة أُصيب بحالة مِن التَّرَهُّل نتيجةَ عوامل متعدِّدة، فتوقَّفت حركة المذهب، وتأخَّر ظهور مرحلة تالية تُعنَى بالجانب التحليلي للمرويَّات المجموعة.

وقد توقَّفتُ حول قول الإمام أحمد – رحمه الله تعالى -: “الحُكم الشَّرْعي خطابُ الشرْع وقوله”، وكيف تَعَامَل الأصوليُّون الحنابلةُ معها، فلم يتعرَّض لمعناه ابنُ تيمية في “المسودة”[12]، وإنَّما ذَكره ضمنَ الأقوال التي ذكَرها لمعنى (الحُكم الشرعي)، وحاول القاضِي المرداوي أن يُبَيِّن معناه، فالتفتَ أولاً إلى أن الحُكم الشرعي هل هو نفس الخطاب؟ فَبَيَّنَ أنَّ مراده “مَا وَقع به الخطاب؛ أي: مَدْلُوله، وهو الإيجاب والتَّحريم والإحلال، وَهُوَ صفةُ الحاكِم، فهو عنْد الإِمَام أَحْمد: مَدْلُول خِطاب [الشَّرْع]”[13]، ثم التفتَ إلى العطف في كلمة الإمام، وقال: ” [وَالظَّاهِر أنَّ] الإِمام أَحْمد أراد بزيادَة: (وَقَوله) على خِطاب الشَّرْع، التَّأْكِيد، مِن بَاب عطف الْعَام على الخَاص؛ [لأنَّ] كل خطاب قَول، وَلَيْسَ كل قَول خطابًا”، فاعتبر قول الإمام: “وقوله” زِيادة، ولم يجِدْ لها مخرجًا إلا أنْ جعلها للتأكيد مِن باب عطف العام على الخاص، ونقَل ابن النجار عنه هذا الكلام[14].

فإذا علمنا أنَّ بيئة الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – كانت تعجُّ بأفكار المعتزِلة العقديَّة والأصوليَّة كما ذكَرْنا، وأنَّ العامَّة والخاصَّة كانوا يفزعون لإمام أهْل السُّنة لبيان ما تتقاذفه ألْسِنة وأقلام المعتزِلة ظهَر أنَّ كثيرًا مِن أقواله ومرويَّاته لا يُمكن فَهمُها إلاَّ على هذا النحو.

فإذا عَلِمْنا – كذلك – أنَّ الإمام لم يكن مِن أهل وضْع الحدود التي ولع بها المتكلِّمون، ظهَر لنا غرابةُ قول الإمام – رحمه الله – وخروجه عن طريقةِ الإمام في أقواله التي كان يحرِص فيها بشدَّة على متابعة اللفظ الأثَري، إلاَّ أن يبيِّن مجملاً مِن الألفاظ المحدَثة، أو يفصِّله، ونحوها مِن عمليات “التحليل” للألفاظ التي لم تكن معتادةً بين طلبة العِلم والعلماء؛ ليُبَيِّن موطن المخالَفة بدقَّة – إنْ كان – على ما بينَّاه في صدْر كلامِنا.

فظهر أنَّ قول الإمام أحْمد – رحمه الله تعالى -: “الحُكم الشرْعي: خِطاب الشَّرْع وقوله” ليس وضعًا منه وتأصيلاً لمعنى الحُكم الشرْعي

وإنَّما هو تصويبٌ منه لِمَا ظهَر في بيئته مِن قول المعتزلة أنَّ الحُكم الشرعي هو “خِطاب الشَّرْع…” فلمَّا ظهر له – رحمه الله تعالى – أنَّ هذا التعريفَ على هذا النحو لا يمثِّل إشكالاً عندَ أهل السنة إلا مِن جهة النقص، وأنَّ الاقتصار على المذكور هو المُشْكِل، سَدَّ هذه الخَلَّة بعطفِ ما نقَص على ما انتشر، فلمْ يَعنِ الإمامُ أحمد رحمه الله – فيما نرَى – بكلمة “وقوله” الزيادةَ للتأكيد مِن باب عطف العام على الخاص – كما فسَّره المرداوي – وإنَّما هو إقرارٌ للمتكلِّمين على تعريفهم الحُكم الشرْعي بأنَّه خطاب الشارِع، وهذا مِن تمام الإنصاف، فقدْ كان يكفيه أن يقول: إنَّ “حكم الشرع: قوله”، فيدخُل فيه خطابُه، لكنَّه أثبت لهم ما أثبتوا، ثم زاد عليه ما أخْرَجه من حيِّز الإشكال، وإذا كان كلُّ خطاب قولاً، وليس كل قول خطابًا – كما ذكَر المرداوي – فقد كان يلزمه إثباتُ أنَّ الحكم الشرعي عندَ الإمام أحمد هو “قوله” دون الالتفاتِ إلى لفْظ “خطاب”؛ لأنَّه مُتَضَمَّنٌ في لفظ “قول”.

وهو ما يلفتنا إلى الفَهْم الدقيق الذي ظهَر للإمام أحمد – رحمه الله تعالى – لإشكال اقتصارِهم على أنَّ الحُكم الشرعي هو خطابُ الشارِع، فقد تَقَدَّم أنَّ معتقد أهل السُّنة والجماعة أنَّ الله – تبارك وتعالى – لا يزال متكلمًا، بالقوَّة والفِعل وقتمَا شاء ويشاء، فكلامه – تبارك وتعالى – صفةٌ له، قديم بالنَّوْع، حادثٌ بالآحاد، فخِطابه داخلٌ في هذا المعنى؛ لاستلزامه مخاطَبًا، وبالتالي يلزم حدوث هذا الخطاب، فصحَّ مذهب المعتزلة ومَن تبِعهم في هذا الجُزء، لكنَّه غيرُ جامعٍ؛ لأنه مبنيٌّ على معتقدِ المعتزلةِ كما سبَق، فخرج منه الكلامُ القديم.

ولعلَّ القرافيَّ قد تَنَبَّه لهذا الإشكال في تعريف المعتزلة في القرن السابع، فهو متوفًّى سنة 684، فقد مرَّ بعد إشارة الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – أكثر من أربعة قُرون حتى وجدْنا مَن ينبِّه على هذا الأمر – فيما وقفْنا عليه – فقد قال في تعريفه للحُكم الشرعي: “كلام الله القديم المتعلِّق بأفعال المكلَّفين على وجه الاقتضاء أو التخيير، أو ما يُوجِب ثبوت الحُكم أو انتفاءه”[15]، واعتبر أنَّ هذا سبقٌ منه في وضْع التعريف على هذا النحو؛ فقال: “فيجتمع في الحدِّ (أو) ثلاث مرَّات، وحينئذٍ يستقيم، وتجمع جميع الأحكام الشرعيَّة، وهذا هو الذي أختاره، ولم أرَ أحدًا ركَّب الحدَّ هذا التركيب“[16]، ووافقه على سبقه هذا تقيُّ الدين الحصني[17]، غير أنَّ تعيين موضع السبق في هذا التعريف مُبْهَمٌ، وقد فهم البعضُ ممَّن تعرَّض لدراسة الآراء الأصوليَّة للقرافي[18] أنَّ ادِّعاء موضع السَّبْق في تعريف القرافي هو زِيادته “أو الوضع”، وهو الظاهِر مِن سِياق كلام القرافي، لكنَّه استشكل ذلك في أنَّ شيخَه ابن الحاجب قد أدْخل الأحكامَ الوضعية في التعريف في “مختصره”، ولا يُتَصَوَّر عدم اطِّلاعه على ذلك، لكن محقق كتاب “شرح تنقيح الفصول” خرَج من هذا الإشكال، فاستنبط أنَّ “سَبْق القرافي في محلِّه؛ إذْ عبَّر بـ(كلام) بدلاً مِن (خطاب)، وزاد قيد (القديم)”، وأشار إلى ذلك الطوفي[19]،

وعلى هذا يكون قول القرافي:

“ولم أرَ أحدًا ركَّب الحدَّ هذا التركيب” كلام مُسْتَأْنَف، لا تَعَلُّق له بحَرْف العطف (أو)، وهو ما يَظْهر لنا، لكنَّنا نستدرك على القرافي – بناءً على هذا – أنه مسبوقٌ بلفظ (قول) مِن قول الإمام أحمد، وهو بنحو لفظ (كلام)، فالسَّبْق على هذا قد يستقيم لخصوصِ لفظ (كلام) مع تركيبه في التعريف على هذا النحو.

لكن القرافي – لأشعريته – قَيَّدَ الكلام بالقديم، فخرَج مِن الإشكال المعتزلي[20] الذي مرَّ على أغلبِ الأشاعرة الذين صنَّفوا في الأصول.

والخلاصة:

كان الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – حادَّ النظر في كلامِ المخالفين مِن أهل البِدع، مع تضلُّعه مِن علوم الشريعة

وبناءً على ذلك استطاع بألفاظٍ بسيطة الكشفَ عن تمويه تلك الفِرق، وما يستتبع استعمالها لألفاظ لم يعهدْها العلماء، لكنَّه استطاع تحليلَ تلك الألفاظ، وبيان ما يُمكن أن يقبل مِن أجزائها، وما لا يُقبل، وزيادة ما نقَص مِن تلك الأجزاء، مع الإنصاف التامِّ مع المخالف، بموافقته في الجُزء المقبول، وإتمام النقْص فيما ندَّ من ذلك.

فقوله: “الحُكم الشرعي خطابُ الشَّرْع وقوله”، مِن أمثله فَهمه الدقيق لقول المخالِف، وما يستتبعه مِن إشكالات إذا ذُكر منفردًا، ومع ذلك لمَّا احتوى على جزءٍ من الحق لم يبطلْه بالكلية، كما أنَّ فيه معرفةً دقيقةً لقواعد الفقه وأصوله، وعلاقتها بالعقيدة، وكيفية بناء القول الأُصولي على المذهَب العقدي، فاستطاع بهذه الكُليمات تصويبَ التعريف مِن الناحية الأصوليَّة، وربْطه بالمعتقد الصحيح لأهل السُّنَّة والجماعة – رحمه الله تعالى.

 

الهوامش

[1] “المعتمد” (1/8).
[2] السابق (1/24).
[3] السابق (1/25).
[4] “المحيط” للصاحب ابن عبَّاد (1/353)، “منتخب من صحاح الجوهري” لأبي نصر الفارابي (ص: 1324).
[5] “مجمل اللغة” لابن فارس (1/295).
[6] “إكمال الإعلام بتثليث الكلام” لابن مالك (1/189).
[7] “لسان العرب” لابن منظور (1/361).
[8] “الخطابة” لأرسطو – تعريب إبراهيم سلامة (1/90).
[9] “تلخيص الخطابة” لابن رشد (ص: 15).
[10] “المعتمد”(1/7).
[11] انظر: “شرح مختصر الروضة” للطوفي (1/255).
[12] “المسودة”(ص577).
[13] “التحبير شرْح التحرير” (2/790).
[14] “الكوكب المنير شرْح مختصر التحرير” (1/333).
[15] “شرح تنقيح الفصول” (ص: 70).
[16] السابق (80).
[17] “القواعد”(1/199).
[18] الدكتور عياض السلمي في كتابه “شهاب الدين القرافي حياته وآراؤه الأصوليَّة” (ص: 82).
[19] “شرح مختصر الروضة”(1/251).
[20] انظر: “شرح مختصر الروضة” للطوفي (1/255).


التعليقات