هل الاجتهادات الفقهية جزء من الشريعة الإسلامية ؟

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم…
فإن الاجتهادات الفقهية جزء من الشريعة بجنسها لا بآحادها!! هذه هي الإجابة المختصرة عن هذا السؤال، وبيان ذلك:
أنَّ الشريعة هي النص الـمُنَزَّل من عند الله تبارك وتعالى:﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى[1]، وأجمعت الأمة على أن الاجتهاد مشروع: ﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ[2]، بل إن الإجماع من أدلة الاجتهاد، فلا إجماع إلا باجتهاد، والاجتهاد أعم من اعتبار القياس من الأدلة الإجمالية للفقه، فالاجتهاد مشروع حتى عند من لا يقول بالقياس، بل إن قوله بعدم اعتبار القياس نوع من الاجتهاد!

فشملت الشريعة على هذا نصوص الكتاب والسنة وما يُلحق بهما كالقراءة الشاذة عند من يقول بها، والحديث الضعيف بشرطه عند من يقول به، والمرسل عند من يعتبره، وقول الصحابي عند من يقوله به ويلحقه بالسنة، وغيرها.

وأما الاجتهاد الشرعي فقد جعله الشارع طريقًا معتبرًا لفهم هذا النص الشرعي – كما سبق -وبالتالي أصبح بمجمله أو بجنسه جزءً من الشريعة، بالرغم من مباينة آراء آحاد المجتهدين لها، يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم من حديث عمرو بن العاص – رضي الله عنه- « إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ، ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ، ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُأَ جْرٌ»، قَالَ: فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، فَقَالَ: َكَذَا حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ[3] فاحتمال الخطأ على المجتهد مُبَيِّنٌ أن هذا الاجتهاد مباين للشريعة، قال تعالى: ﴿ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ[4]، وعن السُّنَّة: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى[5]، وقال: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ[6]، وقال صلى الله عليه وسلم: «اكْتُبْ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ» بعد أن أومأ بأصبعه إلى فيه[7].

ولهذا عرَّفوا الفقه بأنه:

(العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية)، على الخلاف فيه، فالأدلة التفصيلية هي النصوص الشرعية، فظَهَرَ أن الاجتهاد عملية بشرية غير معصومة مِنْ مؤهَّلٍ له مَلَكَات لفهم النص المعصوم، ولهذا فاجتهاد الفقيه لا يمكن أن يصير بآحاده معصومًا، حتى لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس بالفقه لم يكن ذلك مؤذنًا بعصمة فقهه واجتهاده، لأن الفقه في ذاته يحمل معنى عدم العصمة، فحصول الفقه لـمُعَيَّنٍ هو عبد الله بن عباس، وهو حاصل بلا شك لأن دعاء الأنبياء مجاب، مُوجِبٌ كذلك لحصول لوازمه.

ومع ذلك يجب التفرقة بين عدم المعصومية والاحتجاج، فلا ملازمة بين المعصومية والاحتجاج، فكل معصوم حجة، لكن الحجية ليس من شرطها العصمة، والملازمة بينهما من طريقة المتكلمين، ومقام بيانه لا يتسع له هذا الموضع.

إلا أن للفقه والشريعة نقاط تماس يتحد فيه المفهومان، وذلك بناءً على أن الشارع قد أفادنا أن الحاكم أو المجتهد قد يصيب وقد يخطئ، لكن موضع الإصابة والخطأ مبهم، وبالرغم من ذلك فإنه ثَمَّ حالتان يمكن عندهما الجزم بنقاط التماس هذه:

الحالة الأولى: من جهة النص الشرعي :

ويحصل هذا إذا كان النص الشرعي قطعي الثبوت، قطعي الدلالة، فقول ربنا تبارك وتعالى ﴿ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ﴾[8] قطعي الثبوت بلا شك، وقطعي الدلالة كذلك، لأنه من دلالات الأعداد التي جاءت على وجه التقدير والتحديد، لا على وجه التمثيل والتقريب.

الحالة الثانية: من جهة مجموع المجتهدين :

وذلك أنه بالرغم من ثبوت احتمال الخطأ على المجتهد؛ إلا أن هذا الاحتمال يتلاشى شيئا فشيئا كلما اتفق المجتهدون المعتبرون على حكم بشرط انعدام التأثير الخارجي على الحكم الـمُنْتَحَل، حتى يتلاشى تمامًا الاحتمال باكتمال الاتفاق بين المجتهدين، وعند ذلك يحصل الإجماع، وهو (كاشف) عن موافقة الاجتهاد للحكم في نفس الأمر.

على أن الحالة الأولى تؤول للثانية بلا عكس، فما كان قطعي الثبوت، قطعي الدلالة لا يجوز الاختلاف فيه، وما كان كذلك محل إجماع بلا شك، لكن الإجماع قد يكون في غيره، بمعنى أن المجتهدين قد يجتمعون بغض النظر عن قطعة أو ظنية ثبوت الدليل أو دلالته.

وبناءً على ذلك :

فمَوَاطِن الإجماع هي مواطن التماس والالتقاء بين الشريعة وآحاد المسائل الفقهية، ويمكن الاطلاع عليها في الكتب التي تخصصت في هذا كالإجماع لابن المنذر، ومراتب الإجماع لابن حزم، مع نقده لابن تيمية، كما اهتم عدد من العلماء في شروحاتهم بتحرير الإجماع ونقله، كابن عبد البر في “التمهيد”، والوزيرابن هبيرة في “الإفصاح” وغيرهما.
وثمَّ حالة أخرى لا يكون الالتقاء فيها بين الشريعة والفقه وجوديًا كما في الحالة السابقة، وإنما يكون الالتقاء عدميًا، بمعنى نَفْي إمكان خروج الشريعة عن مجموعة من الأقوال الفقهية، ومثال ذلك إذا اختلف الفقهاء على قولين في مسألة بين مستحب وواجب مثلًا، فالقدر المشترك بينهما الاتفاق على تَشَوُّف الشارع لقيام المكلف بهذا الفعل، فهو مفعل مطلوب، لكن أحد القولين طلب على سبيل الجزم، والآخر طلب لا على سبيل الجزم، فإذا تمت شروط الإجماع في هذه الحالة، عدا الاتفاق بين الفقهاء، فهذا إجماع على أن الحق محصور بين هذين القولين، فلا يجوز إحداث قول ثالث في المسألة، لأن ذلك لازمه غياب الحق عن مجموع الأمة في فترة من الفترات، وهو ممتنع، فلا يجوز ادعاء الحكم في هذه المسألة بحكم من الأحكام الثلاثة: الإباحة، أو التحريم، أو الكراهة.
ومعرفة هذه الحالة منتشر في كتب الفقه التي تنتهج الخلاف العالي، وتحصر الأقوال فيها، كـ”المغني” لابن قدامة، “المجموع” للنووي، و”المحلى” لابن حزم.

وعلى المستوى القانوني المعاصر :

يمكن المقارنة بين نصين من نصوص دساتير الدول الحالية أحدهما استخدم لفظ (الشريعة الإسلامية)، وهو الدستور المصري الحالي قبل وبعد التعديلات الدستورية، وإصدار الإعلان الدستوري الحالي، في مادته الثانية[9]، والآخر استخدم لفظ (الفقه الإسلامي)، وهو الدستور السوري الحالي، في مادته الثالثة، الفقرة الثانية، فعلى صعيد الشمول؛ يعتبر التعبير المصري أكثر شمولا من الناحية اللفظية عن نظيره السوري، وذلك أن الشريعة الإسلامية تتضمن بطريقة إجمالية أقوال الفقهاء الإسلاميين، بالإضافة إلى أنها تتضمن أيضا معاقِد الشريعة الأخرى كالعقائد والأخلاق، والتي لا تدخل بطريقة مباشرة في حد الفقه.

غير أن بقية المادة تَقْصُر ذلك على التشريع (…المصدر الرئيسي للتشريع)، وبالتالي فقد خصصته وقصرته على الفقه، فتساوت المادتان من هذه الجهة، وكان الأولى النص على أن الإسلام دين الدولة كما هو الحال في المادة (149) من دستور 1923م، ثم يأتي ذكر مصدرية التشريع عطفا عليه، مع توحيده، فتكون كذكر الخاص بعد العام، فتشمل بذلك الجوانب العقدية والأخلاقية والتشريعية.

أما من الناحية التطبيقية العملية فإن النص السوري أكثر واقعية، وذلك أن القائمين على وضع التشريعات في كلا البلدين عند إرادة الموافقة يتعاملون مع الفقه الإسلامي، بمعنى أن المتبع هو الاختيار بين أقوال الفقهاء، وتكون معايير هذا الاختيار الملائمة والاستحسان العقلي، وليس رجحان الدليل الذي يستند إليه القول الفقهي، وذلك لخلو اللجان القائمة على وضع هذه التشريعات من مجتهدين لهم القدرة على استنباط الأحكام الشرعية واستخراجها وتنزيلها على النوازل والمستجدات.

إلا أن القائمين على التشريع المصري ربما يستخدمون عمومية النص (الشريعة الإسلامية) في مخالفة كافة العلماء بدعوى الاجتهاد في فهم الشريعة، وذلك مثل القانون الصادر بمدة اعتبار المفقود ميتًا، والذي لا يوافق أي مذهب أو قول من أقوال الأئمة، بل إن القانون المصري كان يستند قبل تعديله للمذهب الحنبلي – أيسر المذاهب وأقربها في تحديد مدة اعتبار المفقود ميتًا -الذي يعتبر المفقود ميتا بمضي سنة، لكنهم عدلوا عنه في هذا القانون، لامتصاص الغضب الشعبي بعد غرق العبارة السلام 98، فاستثنوا من ذلك حوادث غرق السفن وسقوط الطائرات، وجعلوا المدة (15) يومًا فقط!!

ومن هنا لو كان الاصطلاح المستعمل في الدستور المصري (الفقه الإسلامي) لأمكن الطعن دستوريًا في القانون المشار إليه لمخالفته مجمل أقوال الفقهاء المسلمين.

وعلى المستوى العلمي الأكاديمي

فقد أبدينا الاعتراض على أسماء الرسائل العلمية المنتشرة في الجامعات والمعاهد التي تتخذ من اسم الشريعة بيانًا لاجتهاد مؤلفيها، فتجد مثلا من الأسماء: (أحكام الشريعة الإسلامية في …) أو (…بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي) ونحوها، وذلك صونًا للشريعة عن التخطئة، وأما فقهها فقد يصيب الشريعة، وقد لا يصيبها كما بيَّنَّا، ولهذا لم نجد من أطلق على كتاب من كتب الفقه قديمًا اسم (الشريعة)، أو ادَّعاه في مقدمته، وعندما استخدم الآجُرِّي اسم (الشريعة) لكتابه فقد كان هذا من مفاتيح فهم كتابه، وشرطه فيه، فقد أورد في كتابه مباحث عقدية يتوافَق فيها اجتهاد العلماء من لدن الصحابة والتابعين وتابعيهم، مع صريح النصوص الشرعية، فكأنه يريد أن يقول أن هذه الأحكام العقدية لا تحتمل الاختلاف، وهاكم ما يؤكد ذلك من نص شرعي، وفهم سلفي.

والخلاصة:

فلا يجوز اعتقاد أن الشريعة توافق قولًا خلاف الأقوال التي اختلف عليها الفقهاء المعتبرين بشرطه.

تعتبر الاجتهادات الفقهية جزءً من الشريعة بجنسها لا بآحادها، فلا يجوز إهدارها، أو الغفلة عنها من جهة كونها ثروة علمية كبيرة نحتاج للبناء عليها، لا إهدارها والبدء من حيث بدأ القوم، ولا يجوز إهدارها أيضًا لتأثيرها المباشر على معرفتنا بمواطن إصابة فهمنا للشريعة، وذلك بطريقة وجودية في الإجماعات، والتي هي في حقيقتها اجتهادات، فهي كاشفة للحكم الشرعي في نفس الأمر، ومعرفة الخلاف مؤثرة فيها، فكم من مسألة ادُّعِي فيها الإجماع، فظهر وجود الخلاف فيها، وبالتالي خرجت من مواطن تَيَقُّن الالتقاء بين الفقه والشريعة، وبقيت في موضع الاحتمال، وبطريقة عدمية عند استقرار الخلاف على عدد من الأقوال،

 

الهوامش

[1] سورة الشورى: (13).
[2] سورة النساء: (83).
[3] “صحيح البخاري”(7352)، “صحيح مسلم”(1718).
[4] سورة فصلت: (41-42).
[5] سورة النجم: (3-4).
[6] سورة النحل: (44).
[7] “سنن أبي داود”(3646).
[8] سورة النساء: (11).
[9] كُتب هذا المقال في 22/6/2011م – 10/7/1432 هـ


التعليقات