حين يبدو الانحطاط كوجهة نظر

المشهد الأول: مشهد الديانة المسيحية.

تأمل معي قول الله سبحانه:( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ) 
وصف إلهي بليغ يبين مدى بشاعة وجرم ادعاء الولد لله.. أليس كذلك؟.. حسنا.. ما رأيك أن هذا الادعاء الأثيم هو (وجهة نظر)؟ نعم.. هذه هي الحقيقة.. التثليث ليس فقط (وجهة نظر) بسيطة، بل وراءها جيش من المفكرين الفلاسفة كل منهم أخرجها من زاوية مختلفة عن الآخر، أو غطى بنظرياته مساحة مختلفة عن الآخر بدءا من بولس الرسول ويوحنا ذهبي الفم، مرورا بتوما الأكويني والقديس أوغسطين وانتهاءا بفلاسفة اللاهوت في عصر النهضة. جيش مهمته وضع عقيدة التثليث في قالب نظري معقول، حتى لو به ثغرات.. المهم أن يبدو في النهاية كـ (وجهة نظر).
ومع ذلك.. فربنا سبحانه وتعالى لم ينظر لها كـ (وجهة نظر) خاطئة، بل كـ (جريمة) في حقه، لأنه سبحانه يعلم أن عقيدة التثليث سياقها الحقيقي ليس (نظريا) في الأصل، ولكنه (سياق نفسي) وهو رغبة الإنسان في ادعاء الألوهية عن طريق غير مباشر، وأن الإنسان من عادته وضع رغباته في سياقات مبررة نظريا، حتى لو بها ثغرات، المهم أن تبدو كـ (وجهة نظر)، فهذا أفضل من أن تبدو على حقيقتها كـ (رغبة شريرة).
ويمكن أن يقاس على المسيحية سائر الأديان والمعتقدات والمذاهب، حتى أن الله سبحانه قد قرن بين الشرك وبين الزنا في إشارة إلى أنه ليس مجرد أفكار خاطئة، بل إرادة شريرة قبيحة، فقال سبحانه: (الزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ) 

المشهد الثاني: مشهد الانحرافات داخل الحضارة الإسلامية.

يسجل لنا التاريخ نوعا من الانحرافات هو أقل حدة من انحرافات الأديان، وهو الرغبات الشريرة داخل كيان الحضارة الإسلامية، مثل الرغبة في تملق السلطة.. الرغبة في انتزاع السلطة.. الرغبة في الاستعلاء على عموم الأمة.. الرغبة في التمايز عن الأمة.. الرغبة في تحقيق مكاسب سياسية معينة.. وعدد يصعب حصره من الرغبات التي أحدث كل منها شرخ في جدار الأمة.
هل تعلم أن كل من هذه الرغبات الشريرة لم تكن تبدو هكذا سافرة.. بل كانت توضع في قالب من (وجهات النظر)، وهو ما أطلق عليه الشرع لفظ (بدعة)؟ فكانت بدعة الإرجاء والجبرية لتغطي الرغبة في تملق السلطة.. وكانت بدعة الخوارج لتغطي الرغبة في الاستقلال عن الأمة واحتكار رسالتها، وكانت بدعة المعتزلة لتغطي الرغبة في تضييق مساحة الوحي لحساب العقل.. وبدعة التشيع لتغطي حقدا على الواضع القائم كله.. وهكذا.. وفوق ذلك.. لقد كان لكل بدعة جيش من العلماء الذين أخذوا على عاتقهم ستر هذه الرغبات وجعلها في شكل (وجهة نظر) أيضا.
لذلك فسلفنا الصالح لم يكونوا يتعاملون مع هذه الانحرافات كـ (وجهات نظر) بل كـ (رغبات شريرة) لا بد من حصارها اجتماعيا والعمل على زوالها في أسرع وقت ممكن، وأطلقوا على أصحابها مصطلح (أهل الأهواء) تأكيدا على البعد النفسي للبدعة وأن وراءها دائما إرادة شريرة وليس قصورا معرفيا. لدرجة أن الأوزاعي والشاطبي وابن عياض وغيرهم قد اعتبروا أن توقير أهل البدع هو شكل من أشكال هدم الدين.

المشهد الثالث: العبيد

هل يكتفي العبيد في مصر، أو في أي مجتمع، بالظهور كعبيد، أم أنهم يحاولون دائما صناعة (وجهة نظر) لعبوديتهم؟ صحيح أنها وجهات نظر مهترئة، لكن أنا أتحدث عن (وجهة النظر) كهدف ثابت تحاول (الرغبات الشريرة) تحقيقة والوصول إليه.. سواء نجحت أم لا.

 

بيت القصيد: مشهد الانحرافات داخل الحركة الإسلامية المعاصرة.

الانحطاط داخل التيار الإسلامي هو مظهر نفسي، قوامه هو الكف عن محاولة تغيير الواقع، وأصحابه غير مدركين له شأنهم في ذلك شأن المسيحيين الذين لا يدركون، كأفراد واعين، كونهم معادين لله بعقيدة التثليث،

ويحاولون وضع هذا الانحطاط في قالب نظري شأنهم في ذلك شأن المسيحية التي وضعت مشاعر العداء مع الله في قالب لاهوتي نظري أيضا.
وكما أن المسيحي لا يتصور نفسه كشخص معادِ لله، فالمنحطين داخل الصف الإسلامي لا يتصورون أنفسهم كمنحطين.. وكما أن المسيحية صاغت لنفسها قوالب نظرية، فالانحطاط داخل الصف الإسلامي صاغ لنفسه قوالبه.. وكما أن المسيحية لها سياقها النفسي الحقيقي وهو الرغبة في ادعاء الألوهية، فالانحطاط داخل الصف الإسلامي له سياقه النفسي الحقيقي وهو الرغبة في الكف عن مواجهة المجتمع.
لكن حجة الله قائمة على المسيحية وعلى المنحطين الإسلاميين.. لأن الشرع والعقل والفطرة هم حجج الله على الإنسان.
أنت تدعم الانحطاط داخل الحركة الإسلامية حين تحاول تحصينه حين تعتبره (وجهة نظر) بدلا من أن تحاصره كـ (جريمة).


التعليقات