الاستضعاف … وتغيير الأهداف

الحمد لله الذي خلق الإنسان فسواه ، و كرم المؤمن و اصطفاه ، و صلى الله و سلم على أكمل خلق الله ، محمد رسول الله ، و بعد …

رؤية .. دعت للكتابة

فإن الراصد لواقع الحركات الإسلامية ، الذين هم قلب الأمة النابض بسر الحياة ، ودليلها الناصح إلى جنتي الدنيا والآخرة ، يشهد ـ في الأعم الأكثر ـ تراجعا ملحوظا على مستوى الأهداف المرفوعة للعاملين للإسلام ابتداء ، ولمجموع الأمة بالتبع . والمقارنة بين طرح الدعاة قبل عشرين عاما ، وبين طرح الدعاة اليوم – سواء أكانوا هم أنفسهم ، أم غيرهم – لا يترك مجالا للشك في هذه الملحوظة .

  ثم إنه لما كان من أخص خصائص العمل الإسلامي ، تعبيره عن الوحي المنزل من السماء ، واستعلاؤه على ما يرفضه الشرع من واقع ، مهما بدا ثقيلا في حس أهل الأرض . وراثة لدور الأنبياء عموما ، واستلهاما لسيرة إمامهم وخاتمهم محمد (صلى الله عليه وسلم) وصحابته الأبرار (رضوان الله عليهم) خصوصا .

لما كان الأمر كذلك ، كان واجبا علينا أن نتناصح – ونحن أبناء العمل الإسلامي ، منذ ربع قرن من عمر الزمن – ، وأن يكون ذلك التناصح منطلقا من معاني الوحي ، إذ عنه ينبع كل هدى وخير . ولهذا … جاءت هذه الكلمات .

أهدافنا الكبرى .. وأعذار تغييبها  

إن أهدافاً شرعية كبرى ، كهداية العالم ، وتحكيم الشريعة ، وإقامة الخلافة ، ونصرة المستضعفين ، وتحرير المقدسات خاصة ، والثغور الإسلامية عامة . إن هذه الأهداف لا يمكن أن يتم تهميشها في حس أجيال المنتسبين إلى العمل الإسلامي ، بل وأطياف الأمة المسلمة ، كما يحدث الآن من طائفة متصدرة من أهل العلم و قادة الدعوة . اكتفاء بموعظة بليغة ، أو رضا بتعليم مفيد ، أو قياما بخدمة خيرية . حيث يجمعها أنها خارج دائرة الاشتباك مع الباطل وأهله ، أو أن فيها تسويغا لقدر من التعايش مع الباطل وأهله .

  إن أعذارهم وحججهم تكاد تنحصر في :

1- الاعتبار بالتضحيات الكبيرة التي قدمت خلال عشرات من السنين ماضية ، والتي لم تكافئها النتائج المرجوة . والشريعة تعتبر مآلات الأفعال ، وتوازن بين المصالح والمفاسد ، فما كانت مفسدته غالبة ، لم يكن مشروعا ، وإن أدخل في الشريعة بتأويل ما .

2- أو المقارنة بين الضعف والتمزق ، اللذين يستشريان في الواقع الإسلامي ، وبين القوة والتحالف العالمي ، والمتزايدين في ظل عولمة العداوة للإسلام ولأمته . فإنه كلما ازداد هذا الفارق ، برجحان كفة الأعداء ، كانت حال الاستضعاف أشد ، وكانت الأحكام الاستثنائية المترتبة عليه أكثر كما ، وأشد توكيدا . وهذا من واقعية الشريعة .

3- أو الدعوة للتقيد بحدود الممكن دون غير الممكن – والذي أدى الاهتمام به سابقاً إلى خسارة الاثنين معاً – . والبصير من اعتبر ، فإن أوامر الشريعة كلها ، شرطها الاستطاعة ، إذ لا تكليف إلا بمقدور . فالتعلق بالأهداف الكبرى ، تعلق بما لا قدرة عليه ، بل بما يؤدي إلى حرمان الأمة من الأهداف القريبة التي تحتاج إليها وتنتفع بها . والتاريخ – البعيد والقريب – يشهد لهذه الحكمة ، ويشهد على سلبيات تجاوزها .

4- أو التأصيل العلمي الذي يربط بين العلم والعمل ، فلا يجب تعليم الناس ما لا يجب عليهم عمله – ولا وجوب إلا مع الاستطاعة ، كما هو معلوم – . فلماذا نخوض المعارك ، لنشيع علما ، لن يعمل به الآن ؟!.. في نفس الوقت ، الذي تحتاج فيه الأمة إلى كثير من العلم ، والذي يعمل به . ألا تحتاج إلى من يعلمها أحكام العبادات ، والأخلاق ، والمعاملات؟!..إن هذه مرحلة الإصلاح الداخلي ، والبناء الفردي والمجتمعي . وهي مرحلة لا يمكن تجاوزها ، للوصول إلى الأهداف المنشودة ، وهذا محل اتفاق . فلماذا ننشغل عنها بغيرها ؟!..

فوجبت المناقشة

إن هذه الحجج ، مع تسليمنا بصحة مقدماتها ، بل ومع إحسان الظن بنوايا طائفة من أصحابها ، تتمثل مشكلتها في أنها مبنية على خلفية الانكسار و الاستضعاف ، بسبب معطيات الواقع المؤلمة ، وخبرة التاريخ المعاصر . كما أنها لا تخلو من استعجال الفرج – ولو شيئاً ما – ، فرجا يتيح لأهل الدعوة حرية نسبية في ممارسة الإصلاح ، حتى لا نكون واقفين في طريق مسدود .

 إن فكرة تغيير الأهداف بما يتواءم مع حال الاستضعاف ، بمعطياتها السابقة ، تتسبب في تفويت ثمرات مهمة . كما أنها في نفس الوقت ، قد وقعت في خللين كبيرين . وبيان ذلك باختصار في الأوراق التالية :

تمهيد علمي ضروري

ألم يقسم العلماء القرآن إلى مكيِ و مدنيِ ، و أشهر معايير التقسيم هو المعيار الزماني ، فما نزل قبل الهجرة فهو مكيِ – و إن نزل بغير مكة – ، و ما نزل بعد الهجرة فهو مدنيِ – و إن نزل بغير المدينة ، و لو بمكة- (1)..؟

ولا يظنن أحد أن ذلك كان من جنس الترف العلمي ، والفراغ الذهني ، الذي لا يترتب عليه فائدة وعمل . إذ أن العلم الذي لا ينفع ، شر كان النبي (صلى الله عليه و سلم) يستعيذ بالله منه (2) .

  فما الذي نستفيده من هذا التقسيم ؟!

إنني في هذه الكلمات الوجيزة أتذاكر معكم شيئا من ثمرات هذا التقسيم . وهي :

1- إن معرفة أثر الظرف الذي تنزلت فيه كلمات الله – تعالى – مهم حتى يحسن فهم هذه الكلمات ، فإن السياق له دوره في فهم المراد ، وفهم المقتضيات المعتبرة من هذا المراد ، وفهم الدلالات الملغاة بقرينة السياق . والسياق منه اللفظي ، ومنه الحالي ، وكلاهما مؤثر اعتبارا وإلغاء . هذا من جهة .

2- ومن جهة أخرى ، يعتبر أولو الأبصار ، امتثالاً لأمره – عز و جل – بذلك (3). ولا يمكن هذا العبور للفوائد إلا من خلال فهم كل من :

أ‌- السنة الربانية – وهي عادته التي طردها في عباده – . فيميز بين المقدمات الصادقة والكاذبة ، وتعرف النتائج الحقيقية من الموهومة . ويستشرف المستقبل من خلال المعطيات المؤثرة ، في ظل القدر الرباني المحكم ، والوعد الرباني الأكيد .

ب‌- والواجب الشرعي – وهو من خطاب تكليفه لعباده – . والذي تبرأ الذمة بامتثاله ، ويتحقق الإيمان بتطبيقه ، بل ولا ترجى حسن العاقبة إلا في متابعته . فحل المشكلات إنما يكون بإنزال دواء الشريعة عليها ، لا بالخروج عنها .

ثم تنزيل ما سبق في ظل الظروف المشابهة ، و التي تمر على الأمة المؤمنة أو الفرد المؤمن . إذ أن هذا التشابه هو قنطرة العبور . وبدونه تتأكد الخصوصية ، وتثبت الفوارق . فإن الشرع الحكيم لا يفرق بين المتماثلين ، كما أنه لا يسوي بين المختلفين . والفقيه حقا من يميز الصفات الجامعة ، والصفات الفارقة ، فيجمع بين ما جمع الشرع بينه ، ويفرق بين ما يفرق الشرع بينه .

الأهداف في المرحلة المكية

لقد قال الله – تعالى- : ( الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) (4) ..

قال ذلك للنبي محمد ( صلى الله عليه و سلم ) ، و للمؤمنين معه بالتبع ، في مفتتح سورة مكية و هي سورة إبراهيم -عليه السلام- (5).

والشاهد من هذه الآية تلك الرسالة العالمية الواضحة ” تغيير حياة كل الناس من كل باطل إلى الحق ” و اعتماد مرجعية الوحي الذي أنزل لتحقيق هذا ” التغيير العالمي ” على الرغم من أن أوضاع المؤمنين بمكة كانت غاية في الاستضعاف (6) هذا من ناحية .

وعلى الرغم من أن الممارسة الفعلية للأسباب المباشرة لهذا ” التغيير العالمي ” تأخرت عن ذلك كثيراً ، فمراسلة الملوك المحيطين بالجزيرة ودعوتهم إلى الإسلام ، لم تتم إلا بعد صلح الحديبية – والذي كان عام 6 ﻫ – . أما فتح تلك البلاد ، فلم يكن إلا بعد انتقاله ( صلى الله عليه و سلم ) إلى الرفيق الأعلى (7). بل لازالت بلاد من أرض الله ، وناس من خلقه – عز و جل – لم تصبهم رياح هذا التغيير بعد ، ولم تفتح لهم أبواب أنواره ، وهذا من الناحية الأخرى .

فكيف تحقق الاتزان بين الهدف والممارسة ؟

لقد ظلت أقدام المسلمين تتحرك في واقع معاش تحكمه اعتبارات لظروفه ، لكنها تتحرك . وحركتها لها وجهة محددة ، إنها تتحرك  نحو هدف لا يغيب عن العينين . والقلب المحرك يستمد طاقته من رؤيته لهدفه ، وهو – في نفس الوقت – يتخير المواضع للقدمين . إذ لو غفل عن الأولى .. تاه ، وربما ضاع . ولو غفل عن الثانية .. تعثر ، وربما سقط .. وضبط العلاقة بينهما هو .. الاتزان الشرعي . وبيانه كالتالي :

أولا : إن مواضع الأقدام – أعني : الظرف الحالي المحيط بالفرد المؤمن أو بالفئة المؤمنة – له أثره المعتبر على الفعل الإنساني . هذا من حيث الممارسة المرتبطة بعالم الأسباب ، و الذي تطلب فيه المقدمات للوصول للنتائج . و ذلك الاعتبار من ضبط الوحي لخطوات الحركة ، وتشريع الوسائل الملائمة لكل حال . لكن في ظل السعي للتغيير المنشود ، وبما لا يؤثر بالسلب على الأهداف الكبرى ، سواء أكان التأثير السلبي عن طريق المعارضة ، أو التشويش ، أو التغييب .

ثانيا : أما العينان ، فلا بد أن تبصرا ما هو أوسع و أبعد من ذلك الظرف ، حيث ترنوان إلى غاية الطريق و ترتبطان بهدفه . وإلا كان نظرهما ترسيخا للوضع القائم ، أو تعايشا معه في حدود الموجود ، أو مدعاة للمراوحة في المكان – في أحسن الأحوال – .

والقلب الذي هو محل الأفكار والمشاعر . لابد وأن يتعلق بالعينين ، فتملأ القلبَ الرسالة الكبيرة ، ويشتاق إلى أهدافها ، يرجو غايتها ، ويثق بنجاحها . مع إدراكه لواقعه ، وحركته المناسبة لتغييره . وهذا يحقق ثمرات هائلة .

من ثمرات التعلق بالأهداف الكبرى :

1- إنه يحفظ القلب عن التأثر السلبي بظرف الاستضعاف لواقع مرفوض ، فلا يتعايش معه ، ولا ينكسر أمامه . وخذ العبرة مما أصاب النصارى ، لما تأثروا باستضعافهم لواقع وثني ، وانكسروا أمامه . فأنتج التعايش دينا يحمل اسم النصرانية ، وهو متماش – في نفس الوقت – مع اللوثات الوثنية .

2- وبه يتحرر القلب من وهم ثبات الأوضاع الباطلة ، واستحالة تغييرها ، يتحرر بأمل ويقين ، يحركان القدمين ، لتخطوا الحركة المناسبة في الاتجاه الصحيح . فإن اليائس لا يتحرك ، بل يستسلم ، أو ينسحب ، أو ينتحر ، أو يتحرك بضعف وعشوائية ، لأنه – في قرارة نفسه – لن يصل لشيء .

3- فإن أسرت القدمان في ظل لحظة من الزمان ، وفي حدود شبر من المكان ، يبقى القلب طليقاً مرفرفاً ، عصياً على الأسر ، يبقى ذا دور و قيمة – و لو بجهاد القلب (8) ، الذي ليس وراءه من الإيمان حبة خردل مما يحفظ عليه كرامته الإنسانية وإيمانه الصادق .

وهذا الحد الأدنى من المكاسب ، ليس بأدنى . بل هو كبير جدا ، فإنه لا يسعى للتحرر إلا أحرار النفوس . ولا يغير الحياة ، إلا من يغايرها . وهل فتح النبي (صلى الله عليه وسلم) الدنيا إلا بمن هذه أوصافهم ؟!..

الخللان الكبيران للمتراجعين عن الأهداف :

1- مخالفة منهج الوحي

والذي هو روح الروح ، وبفقده يفوت الصواب ، وتتخلف النتائج الشرعية الموعودة .

ويزيد هذا المعنى و ضوحاً – بالإضافة للآية (9)، التي انطلق الكلام منها – ما جاء في حديث خباب بن الأرت – رضي الله عنه – قال : ” أتينا رسول الله (صلى الله عليه و سلم) و هو متوسد بردة في ظل الكعبة – و قد لقينا من المشركين شدة – فقلنا : يا رسول الله ، ألا تدعو لنا ؟ ألا تستنصر لنا ؟ فقال : ” قد كان من قبلكم ، يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيُجعل نصفين ، و يمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ، ما يصده ذلك عن دينه.  و الله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، و الذئب على غنمه . ولكنكم تستعجلون . ” (10)

فالنبي ( صلى الله عليه و سلم ) هنا لم يلتفت إلى مشروعية الطلب وهو ” الدعاء ” إنما التفت إلى الباعث و هو ” استعجال مخرج ما ، تعبا من حال الاستضعاف ” و بالإضافة لهذا التحليل الصادق للمشكلة ، بل بالبناء عليه ، طرح مشروعاً للعلاج ، مكوناً من أمرين :

أولهما : استصغار التضحيات – مهما كانت –  في جنب الله – عز وجل – والاستعانة على ذلك بالمقارنة بمن سبق من المؤمنين الصادقين ، والذين تحملوا أكثر مما تحملنا ، وبذلوا أكثر مما بذلنا ..

قد كان من قبلكم ، يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيُجعل نصفين ، و يمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ، ما يصده ذلك عن دينه. ” .. ونحن لم نصل إلى هذه الحال بعد ..

وليتعظ الواحد منا بموعظة الله – تعالى – لنبيه ( صلى الله عليه و سلم ) في مستهل تحميله لأمر هذه الدعوة العظيمة : ( وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ ) (11) فقد ” قال الحسن البصري : لاتمنن بعملك على ربك تستكثره . و كذا قال الربيع بن أنس ، و اختاره ابن جرير ” (12) .. فكيف يرى مؤمن مقصر – بعد هذه الموعظة – عمله أو تضحيته كثيرة ..؟!

ثانيهما : استحضار تحقق الأهداف المرجوة و تعميق الثقة في وعد الله – سبحانه – بذلك ، مهما بدت ظواهر الأسباب غير مؤدية إلى تلكم النتائج ..

والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، و الذئب على غنمه . ولكنكم تستعجلون .” .. فأمر الله سيتم ويظهر قطعا .. وستتبدل حال الاستضعاف هذه .. حتى إنه سيبسط الأمن إلى أطراف جزيرة العرب ” من صنعاء إلى حضر موت ” .. وليس بيننا وبين هذا الوعد الصادق .. إلا بعض الوقت .. ” ولكنكم تستعجلون ” ..

فالمقصود أن تعلق القلب برؤية العين هنا ، كان مما عولج به مرض هبوط القلب – باقترابه من مستوى القدمين – والذي أورثه انزعاجاً و استعجالاً . وقد كان هذا في أسوء ظروف الاستضعاف ، والتي يطلب الناس فيها ” حلاً ما ” ليتجاوزوا شدة أوضاعهم . ألا فليتعلم الدعاة والقادة والمربون ، من نبيهم ( صلى الله عليه و سلم ) ..

2- الخلط بين تعامل الوحي مع كل من الأهداف و الوسائل

أو الرسالة و الممارسة . فإن كل دليل صحَ مما أوردوه ، إنما يصدق على الوسائل و الممارسة ، لا على الأهداف والرسالة ، و بغير هذا الفهم ، لا تجتمع أطراف الأدلة ، وتلتئم في سياق الحق الواحد . فهذا مفتاح الحل ، والذي يزداد اتضاحا بما يلي :

مفتاح الحل

إن ما سبق وذكرناه في أول هذه الكلمات من تأخر في ممارسة و سائل متعددة ، مراعاة لمختلف الظروف ، مع تأكيد سبق طرح الأهداف الكبرى للرسالة – و لو في حال الاستضعاف – ، إن هذا يزيل كثيراً من غبش الرؤية ، وضباب المنهج ، و وهم التعارض بين أدلة الشريعة المطهرة .

1- فالتضحيات لا ينبغي أن تكون ذريعة لتشويه المنهج

ومن أرهقته التضحيات – وهي مرهقة – فليعط نفسه فرصة لالتقاط الأنفاس ، وليذكر حديث النبي (صلى الله عليه و سلم) : “لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان” (13) .. والذي أخذ منه العلماء ، أن من كان تحت تأثير ضغط ما ، فيفقد الاتزان الذي لا يجوز أن يحكم بدونه ، فإنه لا يقضي ولا يحكم في هذه الحال .. فهل يتأنى المتعبون ..؟!

والوحي – قرآنا وسنة – مليء بذكر تضحيات أولياء الله ، كما في حديث خباب السابق . بل إن الذين يبذلون أرواحهم نصرة لدينهم .. هم الشهداء .. وهم الأحياء .. بينما يموت سائر الناس ..

والذين لا يريدون دفع ثمن العزة ، يدفعون ضعف الثمن .. في ذل . وهذا تاريخ أمتنا – قديمه وحديثه – خير شاهد على ما نقول .    

2- وضعف الأمة أمام أعدائها

هو نفس الظرف الذي تنزلت فيه كلمات الوحي بالأهداف الكبرى . وكان التذكير بهذه الأهداف ، مع ضبط الممارسة تجاه الواقع ، كان ذلك كله مما أخرج خير أمة ، وحقق أفضل واقع .

فهل يتصور مسلم ، أنه كان هناك طريق أقرب .. أو أيسر .. أو أسرع .. للوصول للأهداف .. ومع ذلك .. تركتها شريعة الحكيم الخبير ..؟!

3- كما أن الممكن في عالم الأهداف ، أكبر من الممكن في عالم الممارسة .

وإن كان هناك من أخطأ فأفرط في الممارسة ، احتجاجا بالأهداف الكبيرة . فإن رد الفعل بالتفريط في الأهداف ، احتجاجا بقيد الممارسات الممكنة ، لهو خطأ أكبر ، إذ يسبب تشوها في فهم الدين ، وقصورا في نصرته .

ومع تفاوت الممارسات الممكنة .. كم صورة ستنتج لنا .. للأهداف الإسلامية..؟! فهل سيقبل كل هذا الخلل في التصورات والمفاهيم ..؟!

إن ردات الفعل غير المنضبطة للانحرافات .. أنتجت عبر التاريخ .. انحرافات أكثر . حصل هذا على مستوى الانحرافات العقدية .. والفقهية .. والسلوكية .. فضلا عن غيرها من جوانب حياة الأمة المسلمة . بل وهذا ما لا يزال يحصل على المستوى الفكري ، وغيره . فلا نجا ة إلا بالاعتصام بالوحي ، والتزام سبيله .

4- وربط العلم بالعمل صحيح ، إذا أحسنا فهم العمل .

فليس العمل محصورا في ممارسة ظاهرة بالجوارح ، نؤديها في ظل ظرف بعينه .

بل إن هناك واجبات على القلب أن يعملها . كحب الواجبات الشرعية المفقودة ، فكيف يحبها وهو لا يعلمها ..؟! وكبغض المنكرات شرعا الموجودة ، فكيف يبغضها وهو لا يعلم إنكار الشرع لها ..؟!

كما يجب على المتلبس بأحكام الضرورة ، أن يسعى في إزالة هذه الضرورة ، ليرجع إلى الأحكام الشرعية الأصلية . ولا يجوز له أن يرضى بالتعايش مع الاستثناء ، دون سعي إلى الأصل . فمن لا يعرف الأحكام الشرعية الأصلية .. كيف سيسعى إليها ..؟! ومن لا يعرف أنه في استثناء ألجأته إليه الضرورة .. كيف سيسعى للخروج مما هو فيه ..؟!

ولا يمكن بناء الفرد المؤمن ، وإصلاح مجتمعاتنا ، إلا بمجموع العلم النافع ، والعمل الصالح ، الذي ذكرنا ..

 احذروا الكتمان المحرم

فتغييب بعض الحق ، ولو مع إظهار بعضه الآخر ، يخشى أن يندرج تحت عموم الوعيد الرباني : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ) (14) و ” هذا وعيد شديد لمن كتم ما جاءت به الرسلُ من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة والهدى النافع للقلوب، من بعد ما بينه الله – تعالى -لعباده في كتبه، التي أنزلها على رسله … يلعنهم كلّ شيء على صنيعهم ذلك، فكما أن العالم يستغفر له كلّ شيء، حتى الحوت في الماء والطير في الهواء، فهؤلاء بخلاف العلماء [الذين يكتمون] فيلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون .” (15)

فإن ” عموم الآية في الكاتمين ، وفي الناس ، وفي الكتاب ؛ وإن نزلت على سبب خاص ، فهي تتناول كل من كتم علماً من دين الله يحتاج إلى بثه ونشره ” (16) ” فإن الله أخذ الميثاق على أهل العلم، بأن يبينوا الناس ما منّ الله به عليهم من علم الكتاب ولا يكتموه، فمن نبذ ذلك وجمع بين المفسدتين، كتم ما أنزل الله، والغش لعباد الله، فأولئك { يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ } أي: يبعدهم ويطردهم عن قربه ورحمته.

{ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ } وهم جميع الخليقة، فتقع عليهم اللعنة من جميع الخليقة، لسعيهم في غش الخلق وفساد أديانهم، وإبعادهم من رحمة الله، فجوزوا من جنس عملهم، كما أن معلم الناس الخير، يصلي الله عليه وملائكته، حتى الحوت في جوف الماء، لسعيه في مصلحة الخلق، وإصلاح أديانهم، وقربهم من رحمة الله، فجوزي من جنس عمله، فالكاتم لما أنزل الله، مضاد لأمر الله، مشاق لله، يبين الله الآيات للناس ويوضحها، وهذا يطمسها فهذا عليه هذا الوعيد الشديد.” (17)

وكيف لا يخاف من عموم هذه الآية ، وقد ورد ” أن جماعة من الصحابة حملوا هذا اللفظ على العموم ” (18) ؟!.. ففي الصحيحين عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أنه قال : ” لولا آية في كتاب الله ما حدثتُ أحدًا شيئًا : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى } الآية ” (19) .

والزعم – بعد ما ذكرنا قبل – بأن ما كتم لا يحتاج إليه ، زعم باطل . فإنه تغييب لواجبات متعلقة بنوازل حالة ، وإخفاء لكليات يؤدي إخفاؤها إلى تحريف منظومة الدين ذاته في حس حملته ، مما يباعد بين الأمة وبين الإصلاحات الكبرى  التي يجب أن تسير إليها .

فإذا أضيف إلى ذلك ، أن إظهار هذه الأهداف الكبرى ، لا يترتب عليه إزهاق للنفس ، ولا ما يقارب ذلك – في الأعم الأكثر ، وهو محل كلامنا – . فكيف نقبل هذا التغييب ..؟!

بل إظهار الحق أغلى من الحياة

لقد صار من المعالم شبه الغائبة عند مدعي “الحكمة الدعوية” : قيمة إظهار الحق في الأرض ، وأنه مطلوب شرعا ، محبوب للرب – عز وجل – ، وإن لم يثمر تغييرا في الحال . بل إن قيمته في ميزان الشرع ، أعلى من قيمة حياة بعض أولياء الله في الأرض .

ألم يقل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ” سيد الشهداء حمزة ، ورجل قام إلى إمام جائر ، فأمره ونهاه ، فقتله ” (20) ؟!.. فكيف يحكم بخطأ ، ما حكم الشرع بصوابه ؟!.. وكيف يهمل عمل ، يبلغ بصاحبه رتبة “سيد الشهداء” ؟!..

ألا فليثبت ميزان السماء .. ولتتطاير كل موازين الأرض الخائبة ، والتي نصبت بديلا عنه ..

بين الاستحباب والوجوب

إن كون طلب رتبة “سيد الشهداء” عمل مستحب في حق الأعيان ، لا يعود بالإبطال على قضيتنا “وجوب إظهار الأهداف الكبرى” ، لأننا لا نلوم أحدا ما ، على ترك مستحب ما . إنما نلوم على ما يلي :

1- عدم معاملة المستحب بمقتضى رتبته ، فيحث عليه ، ويطلب ، ويمدح فاعله ، ويعاتب المرء نفسه على تقصيره فيه . إذ قد ألبس ترك هذا المستحب ثوب الحكمة ، وألبس التواصي بتركه ثوب النصيحة ، وألبس أهل هذا المستحب ثوب الغرارة ، وربما ثوب مستجلبي المفاسد ومضيعي المصالح .

2- تجاهل أن المستحب على الأعيان ، واجب على الجملة . كما قرر علماء الأصول ، إذ لا يجوز لأمة الخيرية .. الأمة الشاهدة على غيرها من الأمم .. لا يجوز لها أن تترك كلها مستحبا ، فلا يظهر فيها . قال الشاطبي في “الموافقات” : “إذا كان الفعل مندوبا بالجزء كان واجبا بالكل … فالترك لها جملة مؤثر في أوضاع الدين إذا كان دائما” (21) . بل إن إظهار الحق في الأرض من الواجب الكفائي ، الذي إذا لم تتم كفايته ، يأثم كل قادر بحسب قدرته ، كما تقرر في علم أصول الفقه .. فمن سيسعى لرفع الإثم عن نفسه ..؟!

خصوصية القدوات

أيها العلماء والقادة .. أيها الدعاة والموجهون .. إن هذا الواجب مناط بكم .. لا بغيركم .. فلا تتلفتوا حولكم ، ولا تنشغلوا بطلب مباح ، كانشغال بقية المؤمنين . فإن للرتبة حقا على صاحبها ، والتفريق بين القدوات  وغيرهم مؤصل في شرعنا .. مطبق في تاريخ أمتنا ..

والتخيير الرباني الذي وجه لأمهات المؤمنين في سورة الأحزاب : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا.وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا) (22) حقيقته ممتدة في الأمة ..

فالدنيا المباحة ، والتي استمتع بها نساء المؤمنين ، يمكن أن تنلنها ، لكن بالنزول عن رتبة “أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم –” .. بالتراجع عن موقع القدوة .. بالتضحية بالقرب منه – صلى الله عليه وسلم – ..

وأنتم كذلك .. إن لم تكونوا أهل البذل والتضحية .. لتكونوا الأقرب إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – .. فتكونون بذلك قدوات للمؤمنين .. فضحوا بالقرب والرتبة ، وانزلوا إلى المباح.. لكنكم لن تخلفوا أبا بكر الصديق من الصحابة .. ولا عمر بن عبد العزيز من التابعين .. ولا أحمد بن حنبل إمام السنة .. فاختاروا لأنفسكم ..

ولا بديل عن تبني الأهداف ، إلا .. الانتحار الدعوي

فالداعية حين يتشاغل عن قضايا الأمة المصيرية ، كالخلافة الغائبة ، والشريعة المحاربة ، والمقدسات المحتلة ، والثغور الملتهبة ، وغيرها من النوازل الكبرى … ويرضى فقط باللعب في حدود المسموح به والآمن ، كقصة رقيقة ، وموعظة لطيفة ، وقضية وهمية يحارب فيها أعداء منقرضين ، أو أطلال أعداء لا يمثلون التحدي الأخطر على الأمة  حاليا ، ونحوها … يمارس انتحارا دعويا …

والداعية حين لا يكون صوتا للحق ، ونصرة للمظلوم … بل ينتقل ليكون تشويشا على الحق ، ولو بتدليس هو دون الكذب الصريح . وينتقل إلى تسويغ ظلم ، ولو بأوهى تأويل . ويهمل المظلوم في أحسن أحواله ، ويجلده في أسوئها . حين يفعل ذلك … يمارس انتحارا دعويا …

والداعية حين يغير المواقف والمبادئ الشرعية الثابتة ،  ليتواءم مع أوضاع جديدة، ربما تكون قهرا يغل اليد ، وربما تكون مكتسبات توضع في اليد . فيتحرك البدن واللسان ليكون في صف عدو للإسلام ، يسبغ عليه شرعية مدعاة . بينما هو يطعن في نسبة الشرعية لأصحابها الأصليين ، الذين هم أحق بها وأهلها . ويوهم غيره أو يتوهم في نفسه ، أن قلبه في صف أهل الإيمان . لكنها حكمة الكبار ، ومصالح الصغار ، هي التي صنعت تلك الازدواجية – كما يظنها – . حين يتغير هكذا … يمارس انتحارا دعويا …

و أخيراً :

أرجو أن تكون هذه الإضاءة القرآنية ، حياة لأرواح المؤمنين ، ورفعة لقلوب الصادقين ، ونوراً لأبصار المهتدين ، في زمن غربة و استضعاف ، وحال ظلمة والتباس ، وصدق الله : ( الَّذِي أَرْسَلَ رَسُوله بِالْهُدَى وَدِين الْحَقّ لِيُظْهِرهُ عَلَى الدِّين كُلّه وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) (23) والحمد لله رب العالمين .

 

المصادر

1- مباحث في علوم القرآن ، لمناع القطان [ 57 ] ، ط. مكتبة وهبة ( العاشرة ) 1417ﻫ – 1997م . و مناهل العرفان في علوم القرآن ، لمحمد الزرقاني [ 142 ] ، ط. دار إحياء التراث العربي ( الثانية ) 1419ﻫ – 1998م .

2- صحيح : أخرجه أبو داود [ 1548 ] و النسائي [ 8/263 ] و ابن ماجه [ 3837 ] و أحمد [ 2./340-365-451 ] و الحاكم [ 1/104- 534 ] .

3- ( فاعتبروا يا أولي الأبصار ) [ الحشر – 2 ] .

4-  ]  إبراهيم – 1 [  .

5- تفسير القرطبي [ 9 /348] .

6- البداية و النهاية ، لابن كثير [ 3 /98] ، فصل في مبالغتهم في الأذية لآحاد المسلمين المستضعفين  .

7- السابق ] 4/257[  و ] 6/297 [  .

8- مسلم ، كتاب الإيمان ، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان و أن الإيمان يزيد و ينقص . و أن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر واجبان ، برقم [ 177 ] .

9- والتي رفعت الأهداف الكبرى ، في ظل الاستضعاف المكي القاسي .

10- البخاري ] 6/456 و 7/126[ و أبو داود] 2649[ و النسائي] 8/204[ .

11- [ المدثر – 6 ] .

12- تفسير ابن كثير  [ 8   /207] ، تخريج هاني الحاج ، ط . التوفيقية .

13- متفق عليه : أخرجه البخاري [6759] ومسلم [3327] .

14- [ البقرة – 159 ] .

15- تفسير ابن كثير [ 1 / 259 ] .

16- البحر المحيط ، لأبي حيان الأندلسي [ 1 / 453 ] ط. دار الفكر .

17- تفسير السعدي [ 82  ] ط. جمعية إحياء التراث الإسلامي .

18- مفاتيح الغيب ، للرازي [ 4 / 139 ] ط. دار إحياء التراث العربي .

19- متفق عليه : أخرجه البخاري [118 ] ومسلم [ 2492 ] .

20- حسن : أخرجه الحاكم في المستدرك [4836] وصححه ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع [3675] .

21- الموافقات في أصول الشريعة ، للشاطبي [ 1 / 132 : 133 ] ط.دار المعرفة (بيروت) .

22- [ الأحزاب – 28 : 29 ]

23- [  الصف – 9 ]  .


التعليقات