ذكر نبوته صلى الله عليه وسلم.. وآدم منجدل في طينته

يرجى ملاحظة أن هذه المقالة من المقالات القديمة التي لا يتطابق تاريخ نشرها على الموقع مع تاريخ نشرها الفعلي

«إني عند الله مكتوب: خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأخبركم بأول أمري: دعوة إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني، وقد خرج لها نورٌ أضاءت لها منه قصور الشام»

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد:
عن العرباض بن سارية رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إني عند الله مكتوب: خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأخبركم بأول أمري: دعوة إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني، وقد خرج لها نورٌ أضاءت لها منه قصور الشام»(1). وَفِي رِوَايَةٍ – مَتَى كُتِبْت نَبِيًّا؟ فَقَالَ: « وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ».
جاء في هذا الحديث تحديد نبوته صلى الله عليه وسلم في الحالة التي كان فيها: «آدم منجدل في طينته » أو «بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ ».
ومعلوم أن مقادير الخلق قد كتبها الله قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: « كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، عرشه على الماء »(2)، ومنها نبوته صلى الله عليه وسلم، المكتوبة عند الله ضمن ما كتبه الله في الكتاب.

ولكن اختصاص ذكر نبوته صلى الله عليه وسلم مع ذكر خلق آدم.. هو الذي يتطلب التفسير، الذي يمنع أي محاولة لفهم هذا الاختصاص بغير معناه الصحيح..وذلك من خلال عدة أمور:
الأول: أن سياق الحديث متعلق بذكر المحددات القدرية لنبوته صلى الله عليه وسلم.. بداية من أبي البشر آدم عليه السلام، ومرورًا بأبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، حتى عيسى عليه السلام، ثم أم نبينا وإضاءة قصور الشام بمولده صلى الله عليه وسلم.. كَمَا في الحَدِيثِ..

فَكَتَبَ اللهُ وَقَدَّرَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَفِي تِلْكَ الْحَالِ أَمْرَ إمَامِ الذُّرِّيَّةِ.. كَمَا كَتَبَ وَقَدَّرَ حَالَ الْمَوْلُودِ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ بَيْنَ خَلْقِ جَسَدِهِ وَنَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ.. كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الحديث؛ روى البخاري ومُسْلِمٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: « إِنَّ اللَّهَ وَكَّلَ بِالرَّحِمِ مَلَكًا يَقُولُ: أي رَبِّ نُطْفَةً! أي رَبِّ عَلَقَةً! أي رَبِّ مُضْغَةً! فَإِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يَقْضِىَ خَلْقَهَا قَالَ: يَا رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ أَشَقِىٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَمَا الرِّزْقُ؟ فَمَا الأَجَلُ؟ فَيُكْتَبُ كَذَلِكَ في بَطْنِ أُمِّهِ»(3).
فكما يكون تقدير الهداية المحددة للمصير « أَشَقِىٌّ أَمْ سَعِيدٌ » لكل مولود من أبناء آدم قبل أن تدب فيه الروح.. كذلك يكون تحديد نبوته صلى الله عليه وسلم الواردة في هذا الحديث قبل أن تدب روح آدم في جسده.

وبذلك تلازم تقدير مقام النبوة وهي إمامة الهدى.. عَلَى أَنَّهُ إمَامٌ مُطْلَقٌ لِجَمِيعِ الذُّرِّيَّةِ مع وقت خلق آدم وذريته من بعده حتى قيام الساعة، باعتبار أن تقدير خلق آدم كان له ولذريته بدليل الحديث: «إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه، فأخرج منه ذرية»(4).
وبعد الوجوب القدري لنبوته صلى الله عليه وسلم قبل نفخ الروح في آدم.. تأتي المحددات القدرية الأخرى المؤكدة لمعنى ذكر النبوة قبل خلق آدم، من خلال العلامات القدرية على إمامة الهدى وهي:
دعوة إبراهيم: ودلالة هذه الدعوة هي ارتباط قدر نبوته صلى الله عليه وسلم تحقيقًا وواقعًا بأبي الأنبياء، وتقدير ارتباط الرسالة بالبيت الحرام، حيث جاءت ضمن دعاء الخليل بنشأة الأمة المسلمة: { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [البقرة: 127- 129].
وبذلك تنطبق في هذا الدعاء قاعدة الربط بين الأحداث إذا جمعها سياق قدري واحد؛ فكان الدعاء ببعث الرسول أثناء بناء البيت.. كما كان تقدير نبوة الرسول أثناء خلق آدم..

بشرى عيسى: ثم تأتي بشارة عيسى التي تمثل موقفًا نهائيًّا في هذا المسار القدري، وبنفس قاعدة الربط بين الأحداث إذا جمعها سياق قدري واحد؛ لأن البشري هي الحدث المتجه في سياق قدري نحو تحقيقها في الواقع، كالرياح والمطر: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [الأعراف: 57].
وبهذا الاعتبار نشأت خصوصية العلاقة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام؛ بحيث لم يكن معنى بُشرى عيسى برسول الله مجرد إخبار عنه.. ولكن بمعنى الدلالة القدرية لولادة عيسى على بعثة محمد صلى الله عليه وسلم.
لتبدأ مرحلة المسار الفعلي للنبوة.. والذي بدأ بالولادة..
فيكون مع الولادة الضوء الذي رأته أمُّ النبي صلى الله عليه وسلم أثناء الولادة.. ليمتد موقف الولادة الفعلية ويبلغ الواقع المستقبلي للرسالة بإضاءة الشام، والتي ستفتح على المسلمين وتكون منطلقًا تاريخيًّا للرسالة الخاتمة التي ستبلغ ما بلغ الليل والنهار.

والذي يعني بلوغ دينه آفاقه العالمية الجامعة للوجود البشري، بعد القضاء على كل السلطات الجاهلية المسيطرة على العالم، ومنها الحضارة الرومانية التي كانت مسيطرة على الشام، بدليل لفظ الحديث: « قصور الشام » الدال على مفهوم السلطة القيصرية النصرانية.. لتكون دلالة ذلك هي بقاء هذا الدين حتى آخر الزمان.. باعتبار أن الشام هي المساحة الأرضية المقدرة لجميع علامات الساعة وأحداث آخر الزمان.

وبذلك لا يكون معنى ارتباط نبوته صلى الله عليه وسلم بخلق آدم هو أن الخلق الفعلي للنبي صلى الله عليه وسلم كان قبل خلق آدم.. ولكنه كان تنويهًا بالذكر والدليل على ذلك من الحديث هو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وسأخبركم بأول أمري » أي أول ما يدل إلى الخلق الفعلي وهي المحددات القدرية المتعلقة بالخلق الفعلي بعد ذكر تقدير النبوة.
حتى جاء في آخر المحددات القدرية ذكر الولادة وهي بداية الخلق الفعلي.
الأمر الثاني: أن ذكر نبوته صلى الله عليه وسلم في هذا التوقيت، يعني إثبات المناسبة بين تقدير النبوة قبل خلق آدم -وهو أول الأنبياء- وبين الميثاق الذي أخذه الله على جميع الأنبياء: { وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ}..
يقول الإمام ابن تيمية في (مجموع الفتاوى): “فَإِنَّهُ هُوَ الْإِمَامُ الْمُطْلَقُ فِي الْهُدَى لِأَوَّلِ بَنِي آدَمَ وَآخِرِهِمْ، كَمَا قَالَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ؛ آدَمَ وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ» وَهُوَ شَفِيعُ الْأَوَّلِينَ والآخرين فِي الْحِسَابِ بَيْنَهُمْ؛ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ يَسْتَفْتِحُ بَابَ الْجَنَّةِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ الْخَلَائِقِ أَخَذَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِيثَاقَ الْإِيمَانِ بِهِ كَمَا أَخَذَ عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ أَنْ يُؤْمِنَ بِمَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ؛ وَيُصَدِّقَ بِمَنْ بَعْدَهُ.
وَيَكُونَ الْمَعْنَى: مَهْمَا آتِيكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ، فَعَلَيْكُمْ إذَا جَاءَكُمْ ذَلِكَ النَّبِيُّ الْمُصَدِّقُ الْإِيمَانُ بِهِ وَنَصْرُهُ”.
ومن هنا جاء قول ابْنُ عَبَّاسٍ: “مَا بَعَثَ اللهُ نَبِيًّا إلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقَ: لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرَنَّهُ”.
الأمر الثالث: أن فترة بقاء آدم جسدًا قبل نفخ الروح فيه تمثل البداية التي حاول إبليس فيها أن ينشئ في آدم طبيعة الغواية، ارتكازًا على طبيعة خلقه كما في الحديث عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما صور الله آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يطيف به ينظر إليه، فلما رآه أجوف عرف أنه خَلْقٌ لا يتمالك»(5).
وتركه كان في نفس الوقت الذي كان منجدلًا في طينته بين الروح والجسد.
فكان ذكر تقدير نبوته صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت إثباتًا للرحمة المقابلة لفتنة إبليس.. باعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أعلى درجات الرحمة المقابلة لإبليس وهو أشد أسباب الفتنة.
ومن هنا كان قول ابن تيمية في شرح هذا الحديث: رُوِيَ فِي الأَثَرٍ: “إنَّهُ مَا مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ إلَّا يُبْدَأُ فِيهِ بإبليس، ثُمَّ يَصْعَدُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى غَيْرِهِ، وَمَا مِنْ نَعِيمٍ فِي الْجَنَّةِ إلَّا يُبْدَأُ فِيهِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلى غَيْرِهِ”.
فَمَنْ آمَنَ بِهِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين أُثِيبَ…عَلَى أَنَّهُ إمَامٌ مُطْلَقٌ لِجَمِيعِ الذُّرِّيَّةِ وَأَنَّ لَهُ نَصِيبًا مِنْ إيمَانِ كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين؛ كَمَا أَنَّ كُلَّ ضَلَالٍ وغواية فِي الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لإبليس مِنْهُ نَصِيبٌ؛ فَهَذَا يُحَقِّقُ الْأَثَرَ الْمَرْوِيَّ وَيُؤَيِّدُ مَا فِي نُسْخَةِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلًا قَالَ: « بُعِثْت دَاعِيًا وَلَيْسَ إلَيَّ مِنْ الْهِدَايَةِ شَيْءٌ، وَبُعِثَ إبْلِيسُ مُزَيِّنًا وَمُغْوِيًا وَلَيْسَ إلَيْهِ مِنْ الضَّلَالَةِ شَيْءٌ »(6).
الأمر الرابع: فهو العلاقة القدرية المباشرة بين خلق آدم -بصفته أول الأنبياء- وبعثة الرسول صلى الله عليه وسلم -بصفته آخر الأنبياء.
والتي تتبع قاعدة الربط بين بداية الأمور ونهايتها، إذا جمعها سياق موضوعي واحد، وهو هنا سياق قدر النبوة من بدايتها حتى نهايتها.. إثباتًا للحكمة الربانية وأن الله غالب على أمره.

والمثال الواضح على هذه القاعدة.. هو وحي الله ليوسف وهو في البئر؛ بأنه سيخبر إخوته بما فعلوه به، إذ إن إخبار يوسف لإخوته كان بعد التمكين له، الذي بدأ تحقيقه بإلقائه في البئر: { فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَة الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } [يوسف: 15].
فكان الإلقاء في البئر هو البداية.. والتمكين هو النهاية؛ لذا لزم الإخبار بالنهاية عند البداية.
وهو ما يفسر توقيت وحي الله ليوسف: { لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا} في لحظة إلقائه في البئر تحديدًا، ومن هنا كان تعقيب القرآن على خروج يوسف من البئر إلى قصر العزيز: {وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21].

وكذلك الربط بين تقدير الله بتمكين بني إسرائيل.. وبين أشد لحظات الاستضعاف التي مرت بهم، وهي إلقاء موسى في اليم وإخبار أمه وهي تلقيه أنه سيُردُّ إليها ويكون من المرسلين: { وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ. وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 5-7].
ومن هنا تكون العلاقة بين خلق آدم وبعثة الرسول صلى الله عليه وسلم هي تقدير بداية الهداية الربانية للبشر بخلق آدم نبيًّا.. حتى نهاية الرسالة الخاتمة التي ستبقى حتى قيام الساعة.
مما يعطي لضرورة النبوة بُعدًا أساسيًّا؛ وهو امتداد ضرورتها بالنسبة للوجود البشري من البداية حتى النهاية، وجمع ذكرهما في هذا الحديث.
ويؤيد هذا التفسير الدقة المتناهية في تحديد البداية والنهاية..
ففي دقة البداية جاء حَدِيثُ مَيْسَرَةَ الْفَجْرِ قَالَ: “قُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ متى كُنْتَ نَبِيًّا؟ – وَفِي رِوَايَةٍ – مَتَى كُتِبْت نَبِيًّا؟ فَقَالَ: « وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ»(7).
مما لزم كتابتها قبل نفخ الروح.. حتى لا تكون حياة البشر قد بدأت ولو للحظة واحدة دون إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم التي تمثل الأساس الممتد لهذه الهداية.

وكما كانت دقة البداية كانت دقة النهاية.. حيث جاء قوله صلى الله عليه وسلم: «إني عند الله مكتوب: خاتم النبيين »(8)..
وبذلك تثبت قاعدة ذكر ترتيب الأقدار الربانية بصورة منهجية محكمة.. فترتيب ذكر نبوته صلى الله عليه وسلم مع ذكر خلق آدم لها قاعدة مهمة.. وهي أن لترتيب النصوص الشرعية والحقائق التي تتضمنها من القرآن والسنة دلالة منهجية.

ولابد من فهم هذه القضية في إطار هذه القاعدة، وذلك هو مفتاح فهم هذه النصوص.. ومنها هذا الحديث موضوع البحث.
ولنضرب لذلك مثلا.. وهو ما ورد في سورة البقرة في قول الله تعالى: { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ. قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ. قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ. قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاء اللهُ لَمُهْتَدُونَ. قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ. وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ. فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة:67-73].
ومن الثابت أن ترتيب الأحداث هو قتل النفس قبل الأمر بذبح البقرة.. ولكن الآيات تذكر الأمر بذبح البقرة قبل ذكر قتل النفس..
فلابد أن يكون لهذا الترتيب القرآني دلالة منهجية.. وهي أن سياق الآيات، بل وسورة البقرة كلها دائرة على معنى التقوى والطاعة، ومن ذلك الآيات السابقة على هذا النص مباشرة وهو قول الله تعالى: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ. وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ. فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } [البقرة:63-66].

وقول الله بعد ذلك: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:74].

ولما كانت الطاعة هي العبودية لله بقبول شرعه، ورفض ما سواه وهو معنى الالتزام بالشرائع جملة وعلى الغيب، وهذا هو معنى استسلامهم لشريعة الله، حتى قبل أن ينزل منها فرض واحد.

فجاء ترتيب الآيات إثباتًا لمعنى الطاعة والعبودية، وهي قبول شرع الله حتى ولو لم تعرف الحكمة، وهو معنى جملة “وعلى الغيب” الذي جاء في تعريف الطاعة والعبودية والتزام الشريعة.

فجاء الأمر بذبح البقرة.. ليكون الوجوب حتى ولو لم يعرف السبب، وهو قتل النفس الذي لم يذكر إلا بعد الأمر بذبح البقرة، حسب ترتيب النص؛ لتكون الطاعة على الغيب..

تمامًا مثلما جاء ذكر نبوته النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث مع خلق آدم، رغم عدم وجود ارتباط زمني بينهما.. للدلالة المنهجية الثابتة كما وضح في شرح الحديث.

وفي معنى الدلالة المنهجية في ترتيب النصوص والحقائق التي تتضمنها نضرب مثلًا قرآنيًّا آخر وهو قول الله عز وجل في سورة الرحمن: { الرَّحْمَنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْإِنسَانَ} [الرحمن: 3] حيث سبق تعليم القرآن خلق الإنسان؛ لأن خلق الإنسان كان باعتباره خلقًا مهيئًا لتعلم القرآن، فجاء ترتيب ذكر تعليم القرآن قبل خلق الإنسان بهذا الاعتبار، ولذلك جاء بعدها قول الله عز وجل: { عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } [الرحمن:4] ومعناه: أن الله خلق في الإنسان الاستعداد لعلم ذلك، وألهمه وضع اللغة للتعارف، عند قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا } [البقرة:31].. وكان هذا المعنى هو الدلالة المنهجية في ترتيب الآيات، ومن ثم قدم تعليم القرآن على خلق الإنسان؛ فبه يتحقق في هذا الكائن معنى الإنسان(9).

تمامًا مثل ذكر نبوته النبي صلى الله عليه وسلم إمام الهدى قبل ذكر خلق البشر.. باعتبار ضرورة الهداية قبل الخلق واستعداد البشر لقبولها.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
—————————-
(1) أخرجه أحمد (4/128، 17203)، وابن سعد (1/149)، والطبراني (18/253، 631)، والحاكم (2/656)، 4175) وقال: صحيح الإسناد، وصححه الألباني في شرح السنة -مشكاة المصابيح – (3 /251، 5759).
(2) صحيح مسلم ح6919.
(3) صحيح البخاري ح6222، صحيح مسلم ح6900.
(4) سنن الترمذي ح3075.
(5) مسند أحمد ح13516.
(6) أسباب رفع العقوبة، لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/9(.
(7) قال الألباني في (السلسلة الصحيحة 4 /471): أخرجه أحمد في المسند (5 / 59) وفي السنة (ص 111) وأبو نعيم في الحلية (9 /53).
(8) شرح السنة، للبغوي.
(9) في ظلال القرآن (7 /9).


التعليقات