حتى لا نكون سماعين للكذب

إن من أخطر ما تصاب به الأمم عمومًا وما ابتليت به أمتنا هذه خصوصًا هو ذوبان الهوية وتآكل الخصوصية، وأشد من ذلك خطرًا ما ينشأ عنه من اختلاط المفاهيم وغياب التمييز بين العدو اللدود والصديق الحميم. ويبلغ هذا الخطر مداه إذا توافرت لهذا العدو القدرة على التماس اليومي والمباشر مع الجماهير، خاصة في زمن الطفرة التقنية الهائلة أو ما يسمى بالعولمة الثقافية والمعلوماتية ومسح الهوية أو زمن الدعاية السوداء وشعارهم فيها “اكذب الكذبة مائة مرة تصدقها”، وتبث هذا الكذب وتروج له قنوات فضائية فضائحية تواطأت على الكذب وممارسة الزيف والنباح ليل نهار على الإسلام والمسلمين، فيما يشبه تسونامي إعلامي عالمي تؤيده موجات من الإرجاف الداخلي والمحلي تعمل على اجتثاث ما تبقى من ثقافة هذه الأمة و ثوابتها عن طريق حرف المفاهيم وقلب الموازين أو على الأقل تفريغ المضامين وتضليل العقول والوصول بها إلى حالة الحيرة والارتباك وتشوش الرؤى.

فإذا انتصر جهاد المسلمين على قوة من أعتى قوى الأرض قالوا صنعته قوى أخرى فإذا قاتلوها بدورها قيل انقلبوا عليها! وإذا رضيت بعض هذه القوى عن الجهاد رضي الناس وصار أهله مجاهدين وإذا سخطت سخطوا وصاروا إرهابيين، والمقاومة الفلسطينية عصابات خارجة عن الشرعية تهدد السلام في المنطقة بل والسلام العالمي!! أما المقاومة العراقية فحدث عنها ولا حرج فهي مجرد شراذم من بقايا النظام السابق والأعجب من ذلك أنها لا تقتل إلا العراقيين بينما السوبرمان الأمريكي يستعصي على الموت والفناء فالطائرة الشينوك حمولة أربعين علجًا تسقط ليصاب اثنان بجروح خفيفة!! أما عن دعاة الإصلاح السلمي والحريات المدنية من أصحاب الحل الإسلامي فهم طلاب سلطة ورجعيون وأعانه عليه قوم آخرون!

ولا أدري كيف يثبت الأقلاء المستضعفون بأقل الإمكانيات في وجه القوى العظمى المستكبرة بل ويدمروها إلا بعون الله ولا أفهم كيف تنقلب الصنعة على صانعها بل كيف يكون المؤمنون صنيعة الكافرين وما كان لعدو الله أن يصنع ولي الله؟!! وكيف يقتل المجاهدون إخوانهم المسلمين وما خرجوا من ديارهم ولا لقوا عدوهم ولا أراقوا دمائهم إلا لنصرة الدين وحقن دماء المستضعفين!! ولو كانوا في أقاصي الأرض لا يعلمون عن الإسلام إلا أنهم مسلمون؟!

وكيف يصير الدفاع عن الأرض والعرض والحق الذي تفرضه حقائق التاريخ وتحوطه تخوم الجغرافيا إرهابًا يعرقل مفاوضات السلام ؟! وكيف يصير الشهداء الذين تخصصوا في ابتكار فنون الموت في سبيل الله حنجوريين يطلقون النار في الهواء ولا ينفجرون إلا في الوقت الغير مناسب حين تبدأ واشنطن في الضغط على شارون المسكين ـ من أجل الحقوق العربيةـ فتأتي عملياتهم لتخفف عنه الضغوط وتعيده إلى حجم الخرتيت مرة أخرى؟!

ولا أدري والله كيف تكون المقاومة الإسلامية في العراق والتي صمدت حتى الآن ما يقارب الثلاثة أعوام كبدت فيها العدو الأمريكي أفدح الخسائر، كيف تكون من بقايا نظام بعثي لم يصمد بضعة أيام في المواجهة؟!

وكيف يقال عن دعاة الحق والعدل والخير أنهم رجعيون وما أرادوا الرجوع إلا لله ورسوله ودينه وكيف يطلب السلطة الألوف المؤلفة من الناس ليفنى على أعتابها منهم الجيل تلو الجيل ومن منهم يا ترى سيتقلد مناصبها بعد ذلك؟! أهم الشهداء الذين قضوا وليس لهم من أمر الدنيا شيء أم هم المعذبون والقابعون في غياهب السجون وقد ضحوا في سبيل دينهم بالغالي والنفيس وتركوا لأجله أموالهم ووظائفهم ؟!

كذب مفضوح ونفاق غبي وتهافت أرعن وحقائق مموهة فمن نصدق يا ترى. في هذا الضجيج. ومن نكذب ولمن نلقي أسماعنا وأين الحقيقة وما هو الميزان الصحيح الذي ينبغي ان توزن به الأمور وترد إليه المفاهيم عند سماع الأخبار؟ فإنه ليس شرًا عند الله تعالى من ألسن الكذب إلا الآذان التي تعودت سماع الكذب والقلوب التي استمرأت قبول هذا الكذب، وهذا المقال محاولة سريعة ومتواضعة لإرساء بعض أصول الفهم والنظر في قبول الأخبار والتحذير من سماع الكذب والعمل به، حتى لا نكون سماعين للكذب؟

فالصراع بين الحق والباطل هو ميزان الحقائق وهو الحكمة الكونية من خلق الناس وعليه قوام الدنيا وما فيها وفي هذا السياق استحال زوال أحدهما قبل يوم القيامة لينفرد الآخر بالوجود! والحق ليس مصاحف معلقة ولا مناهج مجردة وإنما هو رجال تحمل منهج الحق لتنصره في معترك الحياة وتحققه في واقع الناس، كما أن الباطل ليس عجلًا ذهبًا وإنما هو أشخاص تحركهم نوازع الإثم وعبادة الطاغوت. فللحق أهلون باقون ما بقي الزمان ولو مستضعفين غرباء، وإلى هؤلاء ينبغي أن ترد الحقائق فهم معيار لها وحكم عليها حتى إذا لم يبق في الأرض من يقول الله الله فقدت البشرية استحقاقها للبقاء وقامت الساعة على شرار الخلق.

وإذا كان مصدر الخبر جزءًا من مصداقيته! فكيف يصدق الكاذب ويكذب الصادق ويؤتمن الخائن ويخون الأمين وما كان لأمين أن يخون قط ولكن أؤتمن غير أمين فخان، حتى صار أعداء الحق حكمًا عليه وعلى أوليائه ولا ينبغي أن يطاع الخصم عند العقلاء لخصومته فكيف إذا كان هو الحكم؟!

فلابد أن يدق ناقوس الخطر إذا تحدث أعداء الإسلام عن فئة من المسلمين ولابد أن يريب الخبر العذب إذا أذاعته ألسن الكذب فعجيب أن يتباكى سدنة الديكتاتورية وجلاوذة الظلم والطغيان الذين طالما ولغو في دماء الشعوب المستضعفة على حقوق الإنسان وهم يهدرونها كل يوم وكل ساعة وعجيب أيضًا أن يتهم تجار الحرام وأكلة أموال الناس بالباطل أن يتهموا المؤمنين بأنهم يتاجرون بالدين!! ليجتروا شعاراتهم البائدة وليزرعوا في لاوعي الشعوب المغيبة أن تعاطي الدين كالأفيون للشعوب!!

وما ينبغي لأحدنا أن يحسن الظن بنفسه ويسيئه بغيره من المسلمين فهي ثلمة في الإيمان، وإذا كان المسلم الصادق لا يتصور أن يخرب بيوت الآمنين أو يروعهم فضلًا عن أن يخرب بيته بيديه أو يروع ذويه بمحض إرادته؟! فلماذا إذًا يصدق ذلك في حق إخوانه وماذا إذًا بقي من إخوة الدين ووشيجة العقيدة؟!

وإذا كان الخطأ واردًا على خلق الله جميعًا فلماذا يصير خنجرًا يوجه لظهر المؤمنين خاصة ولم يدعِ أحد لهم العصمة في اجتهاداتهم وخياراتهم الواقعية فالله تعالى لم يجعلهم ملائكة مبرئين ولا رسلًا معصومين وإنما جعلهم مكلفين مبتلين ترد عليهم الخواطر وتغشاهم الفتن كما تغشى الناس ويصيبهم من سوء التقدير أو عوارض الهوى ما يليق ببني آدم، وإنه مما استقر في العقول السليمة والطباع القويمة أن الفعل ليس مستقلًا بأحقية المدح أو الذم والخيرية أو الدونية وإنما له عوالق أخرى لعل من أهمها الخلفية العقدية والمرجعية الفكرية التي يستند إليها وينطلق منها وإن نفوسًا خضعت لأمر الله ورسوله وأبرمت أمرها على الطاعة وإن لم توافق المراد لهي أولى بالحق والخير أصابت أم أخطأت وما تزال مغفورة مجبورة. وإن نفوسًا مردت على الكفر والنفاق وقصد مخالفة الأمر الإلهي والرأي المعصوم لهي نفوس خبيثة لها مقاصد خسيسة يستحق أصحابها الذم وإن أحسنوا والبغض وإن أصابوا وبهذا المعنى تكون سيئات المؤمنين خير من حسنات المجرمين لا في ذاتها وإنما في بواعثها ومسبباتها قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّـهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِ‌يبٍ فَأُولَـٰئِكَ يَتُوبُ اللَّـهُ عَلَيْهِمْ ۗ وَكَانَ اللَّـهُ عَلِيمًا حَكِيمًا. وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ‌ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ‌} [النساء:18،17]. فهم ليسوا سواء عند الله كما لا ينبغي أن يكونوا كذلك في عرف المؤمنين.

وأخيرًا: ينبغي أن نعلم أن كتاب الله تعالى فيه أصول الهدايات إلى الحقائق ففيه الفرقان بين الحق والباطل وهو نور يقذفه الله في قلوب أوليائه ليميزوا به الحق من الباطل.. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.


التعليقات