الجاهلية الحديثة و الحنين للماضي

دائما ما ينعت العلمانيون و الليبراليون والحداثيون المسلمين و دعاة الإسلام بالرجعييين و يتهمونهم أنهم يريدون أن يدفعوا البشرية إلى هاوية التخلف و الجهل, و يأخذونها القهقري إلى العصورالقديمة, و التقاليد البالية, و النظريات الساذجة, بعد ما و صلت اليه من التقدم و الرقي و الحضارة التي لم تعرفها من قبل. الواقف على هذه الاتهامات يلحظ أنها خالفت الواقع من ثلاث و جوه :

الأول :

أن القول بأن العصور الأولى هي عصور تخلف و رجعية لا يصح بهذا الاطلاق. و الصحيح أن الرجعية و التخلف ليست متعلقة بقدم الزمان و حداثته, بل هي متعلقة بطبيعة التجمعات البشرية و قيمها و ثقافتها, و نظام الحياة و شكل الإدارة فيها, و تصورها للإنسان و دوره, و للوجود و حقيقته, و الرسالة التي تقدمها للإنسانية, و الأثر الذي تخطه في التاريخ. والإ فإن هناك أمما تعيش حالة من التخلف البين و هي في القرن الواحد و العشرين. و على النقيض عاشت أمم في رقي إنساني و ازدهار حضاري في أزمنة قديمة. فمجتمع النبوة يمثل أرقى و أزهى مثال للرقي الإنساني, وذلك بقيمه السامية و تكريمه لبني ادم و توافقه مع الفطرة السوية و الذوق الرفيع و الحس المرهف و طهارة الظاهر و الباطن, و الانتصاب لنصرة الحق و إقامة العدل, و إشاعة الرحمة بالخلق أيا كان نوعه, و الرجوع إلى هذا العهد هو رجوع إلى الكرامة الإنسانية.

الثاني :

أن اعتبار هذا الزمان هو أوج التقدم البشري مخالف للحقيقة, فقيمة المادة طغت في هذا العصر على قيمة الإنسان, و شاعت المطالب البهيمية على حساب قيم الروح, و أصبحت الحاجات البشرية لا تتجاوز الطعام و الشراب والسكنة والجنس. أما فشو الظلم و الجور فحدث ولا حرج، حيث يأكل القوي الضعيف في حمى الشرعية الدولية، ويزداد الغني غنى و الفقير فقرا ً تحت رعاية الرأسمالية، ويستعبد البشر وتجوع الشعوب سواءً كان في عصر النهضة و الكشوفات الأوروبية، أو عصر العولمة الأمريكية وفيها يشقى العبيد من غير البيض، وتقصم ظهورهم من العمل الشاق ثم لا يجدون إلا الفتات، و تمتلئ جيوب سادة العالم وتتضخم أرصدتهم. وعلى صعيد المبادئ والنظريات فالعالم يعيش في خواءٍ قيمي تحطمت فيه عدالة الماركسية في منافي سيبيريا، و قوة الرأسمالية في أزمة الاقتصاد العالمية، وفضحت فيه مبادئ حقوق الإنسان في أبي غريب، وضاع فيه العدل في جوانتنامو، وتلاشت فيه معاني الرحمة مع الشركات عابرة القارات، وسادت فيه البربرية و الهمجية و تقتيل الأبرياء بصواريخ توماهوك والطائرات بدون طيار واليورانيوم المنضب تركت في ذاكرة التاريخ أحداثا ً مؤلمة، واسألوا هيروشيما و ناجازاكي عن أسلحة الدمار الشامل وكوريا عن الحرب البيولوجية و غزة و الفلوجة عن الفسفور الأبيض و القنابل العنقودية.

الثالث:

أن الذي يريد أن يرجع البشرية إلى عهود التخلف هي الجاهلية الحديثة المتمثلة في العالمانية (بتطبيقاتها في نواحي الحياة المختلفة من ليبرالية و ديمقراطية و رأس مالية او اشتراكية ). فأي متامل يلحظ تعظيم و تقديس الفكر العالماني لعقائد حجرية بائدة و مسالك بشرية متخلفة, و تقاليد و طقوس بالية, و رؤى و نظريات جاهلة لا تقبلها العقول, تمثل انحطاط و سذاجة و جهل في الفكر و العقل. ومع ذلك تعتبرها الجاهلية الحديثة أنها جزء من (التراث الانساني)!!!! الذي يجب الحفاظ عليه !! فترى العالم قام و لم يقعد لأجل تحطم تماثيل بوذا , مع أنه يمثل صورة من صور التخلف البشري التي يعبد و يقدس فيها البشر بشرا مثلهم و الوثنية التي تجعل الحجارة الهة تعبد من دون الله.

وكذلك تجد التمجيد لحضارة الفراعنة التي تمثل الطغيان و القهر و الوثنية الساذجة و تعبيد البشر للبشر. و إذلال البشر للبشر. بل حتى تجد هذه العالمانية سواء كانت غربية أو في نسختها العربية تدافع عن الأضرحة و عبادة القبور, و تروج لطقوس و أفكار ساذجة تبنى على خرافات و أساطير كرامات الأولياء المزعومة. مع أنها غير منسجمة مع العقلية العلمية التجريدية التي لا تؤمن بالغيبيات. و السر و راء حنين الجاهلية الحديثة المتمدنة للجاهليات القديمة, أن الأصول الجاهلية سواء كانت قديمة بشكلها الساذج أو حديثة بشكلها المنمق تنبثق من فكرة عبادة البشر للبشر سواء كانت بوذية أو فرعونية أو حتى قبورية أو في شكلها الخفي في الديمقراطية التي يشرع (يعبد ) و يخضع فيها البشر للبشر , أو في الليبرالية التي يعبد فيها الهوى من دون الله.

و هذه الأصول الواحدة تدل على وحدة المصدر.. ألا وهو الشيطان.. و كلها صور من عبادة البشر له. ” ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين ” ” كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم”.


التعليقات